قال تعالي "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد" (فاطر: 15)
الفقر في اللغة هو (العوز والحاجة) والفقير هو (من لا يملك إلا أقل القوت) والغنى في اللغة من (غنى) و(غناء) أي كثر ماله فهو غنى وغنى عن الشيء لم يحتج إليه وفى هذه الأيام فى كثير من الدول من يملك 1-3 دولار يوميا فهو فقير.
قال القرطبي (أي محتاجون إليه في بقائكم وكل أحوالكم. و قد عرف الفقراء ليريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه). و قال الشوكاني (أي المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا فهم الفقراء إليه على الإطلاق وهو الغني على الإطلاق). و قال إبن عاشور في التحرير و التنوير (قدم الله فقرهم علي غناه لأن ذلك أدخل للذلة على عظمتهم من الشعور بأن الله غني عنهم فإنهم يوقنون بأنهم الفقراء إلى الله ولكنهم لا يعملون بذلك, فأريد إبلاغ ذلك إليهم لا على وجه الاستدلال ولكن على وجه قرع أسماعهم بما لم تكن تقرع من قبل عسى أن يستفيقوا من غفلتهم).
مما سبق يتبين أن الإنسان, كل إنسان فقير إلي الله في كل حال من أحواله, في دينه و دنياه, فقير إلي الله ليهديه إلي الدين الحق فلولا الله ما اهتدينا و لا صُمنا و لا صلينا, كما أنه فقير إلي الله في دنياه من قبل أن يراها, فلولا الله ما رآها و لا أتي إليها فقد كان مخفيا في أصلاب الآباء و بطون الأمهات لا حول له و لا قوة و لا يعلم أن له وجود أو أن لدنياه وجود, فأنعم الله عليه بغناه فأخرجه من الغيب إلي الوجود, و أعطاه في رحم أمه من الأعضاء ما يغنيه في دنياه عن سؤال غيره أن يقضي له حاجاته, فلو شاء الغني لم يعطه البصر فيحتاج إلي من يقوده في طريقه. و بعد المولد يستمر فقر الإنسان إلي خالقه, فهو فقير إلي ربه كي يبقي أبويه لرعايته, و لو شاء الله لحرمه الأبوين, و فقير إلي ربه في نمو جسده و اشتداد عضده, و لو شاء الله لأمرضه, و فقير إلي ربه ليحفظ عليه عقله و حواسه التي بها يتعلم كل ما حوله و لو شاء الله لحرمه العقل و لجعله مجنونا أو جاهلا, و فقير إلي ربه ليهب له الولد و لو شاء لجعله عقيم, و فقير إلي الله في الماء الذي يشربه و الطعام الذي يأكله, و الأرض التي يعيش عليها و السماء التي تظله, و الشمس التي يستنير بضوئها, و الظل الذي يحميه من حرها, و الملبس الذي يستدفأ به في غيابها, و النار التي تنضج طعامه و تنير ليله, و تذهب برده, فسبحان من أعطي الإنسان من نعمه التي لا تعد و لا تحصي, و لو شاء لحرمه و لن يجد من دون الله من هو في غناه ليعطيه.
و من العجيب أن الإنسان بعد كل هذا العطاء الوفير لا يري من النعم إلا المال, فيقيس به الفقر و الغنى, حتى ظن الناس أن الغني غير فقير, فكيف يكون فقيرا و هو قادر علي شراء كل ما يريد, و تناسي الناس أن عطاء الله الغني غير محصور في المال, و أن الغني مهما جمع من الدنيا فهو بالفعل فقير إلي غنى الله فكيف ذلك؟
من المعلوم أن الأثرياء أو شديدي الثراء أو المليارديرات معروفون على مستوى العالم بالاسم وبمقدار الثروة ويعلنون عن ثرواتهم ويتباهون بذلك وإذا نحن تركنا الأفراد وانتقلنا إلى الدول فإن كثيرا منها تحتفظ في بنوكها بأرصدة كبيرة من سبائك الذهب لتضمن عملتها الورقية فالولايات المتحدة حسب إحصائية مارس 2009 تحتفظ بمقدار 8133.5 طن من الذهب ويحتفظ صندوق النقد الدولي بحوالي 3217.2 طن من الذهب بينما يبلغ احتياطي بنوك العالم أجمع من الذهب 30145.7طن. وإذا جمعنا هذه الثروة من الذهب مع كل ثروات العملات الورقية والبترول والمعادن وثروات كل الأنشطة البشرية من تجارة وزراعة وصناعة وخدمات وخلافه فإن كل هذه الثروات نجدها تمثل جزءا فقط من ثروات الماء واليابسة على الأرض وهى موزعة بين البشر إذ لا يملكها فرد واحد بل إن كل البشر مجتمعين مازالوا لا يملكون كل ثروات الأرض وإذا جمعنا إلى ثرواتهم هذه ما يدعى بعضهم من ملكيته أجزاء من القمر يضعون عليها لافتات ملكية فإن كل ملكية البشر أجمعين لا تتعدى جزاء من الأرض وجزءا من القمر. وإذا نحن تفكرنا فى ما نعلمه من ملكية الله سبحانه وتعالى فنجدها تشمل:
- كل الأرض وما عليها من ثروات بما فيها كل الكائنات حيث هو الذى خلقها.
- القمر وهو تابع للأرض.
- الشمس ومجموعتها كلها وهى وحدها تمثل مليون مرة مثل حجم الأرض وهى نجم عبارة عن مفاعل نووي درجة حرارة قلبه حوالي 15 مليون درجة وسطحه 6000 درجة ويمد المجموعة الشمسية بطاقة تقدر وزنا بحوالي 5 مليون طن في الثانية الواحدة منذ حوالي عشرة بلايين سنة.
- مجرة سكة التبانة (الطريق اللبني) (درب التبانة) و التي تتبعها مجموعتنا الشمسية وتضم أكثر من مليون مليون (ترليون) نجم مثل شمسنا ويقدر وزن كتلة هذه المجرة بحوالى 230 بليون مرة قدر كتلة الشمس (كتلة الشمس حوالى 2000 مليون مليون مليون مليون طن).
- المجموعات المحلية من المجرات (Local galactic groups) حيث تتجمع عشرات المجرات لتكوين المجرات المحلية.
- التجمعات المجرية (Galactic clusters): وتضم من عشرات إلى آلاف المجرات.
- المجموعات المحلية العظمى (Galactic superclusters): وهى مجموعات أكبر من التجمعات المجرية.
- التجمعات المجرية العظمى (Clusters of galactic superclusters) وتشمل تجمعا أكثر من المجموعات السابقة.
- تجمعات التجمعات المجرية العظمى: وتشمل تجمعات أكبر من التجمعات السابقة وكل ذلك لم يتم اكتشافه إلا بعد التقدم الهائل فى علوم الفلك.
- و كل ما سبق موجود في السماء الدنيا, فكيف بباقي السموات السبع و ما تحويه من موجودات لا يحصيها إلا الله
- و ما السموات السبع و الأراضين السبع إلا كحلقة في فلاة بالنسبة إلي الكرسي, فكم من الحلقات يكفي لملأ هذه الفلاة, إنها عوالم لا يحصيها إلا الله, و كلها قليل في ملك الله.
فكيف بالله عليك يا عبد الله تعتبر أغني أغنياء العالم ليس بفقير إلي الله, فلو استخدمنا علوم الإحصاء في مقارنة ملك هذا الغني بملك الله لما كانت هناك نسبة تذكر, و إن شئت قلت صفر إلي ما لا نهاية. و لو أنصفنا لما قارنا ملك هذا الغني بملك الله, فهذا الغني لو حبس بالصحراء حيث لا زرع و لا ماء و أصابه العطش لربما دفع نصف ملكه ثمنا لشربة ماء, و لو حبس الماء في بطنه فأعياه لربما دفع النصف الآخر ليتخلص مما أعياه.
و في الحديث القدسي يقول الرب العلي علي لسان نبيه المصطفي صلي الله عليه و سلم (يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ" رواه مسلم. وأوجه الإعجاز فى هذه الآية الكريمة متعددة منها:
1- أن الخطاب موجه إلى كل البشر في كلمة (الناس) وليس للمؤمنين فقط إذ قد يكون هناك أثرياء كثيرين من الكفار دون المسلمين.
2- تأكد الفقر والعوز للناس فمع تقدم علوم الإحصاء وتقدم وسائل الإعلام تم حصر الفقراء والأغنياء فمثلا عدد الجياع في العالم إحصاء أكتوبر 2009 قد تعدى المليار نسمة أي ثلث سكان الأرض.
3- تأكيد أنه هناك أغنياء في البشر ولكنهم نسبيا إلى الله سبحانه وتعالى في قوله (إلى الله) فهم فقراء إذ كل ثرواتهم لا تتعدى جزءا فقط من الأرض أو القمر ولا تقارن بما سبق إيضاحه من جزء من ملكية الله تعالى.
4- بيان الغنى الذي يعجز البشر عن وصفه لله سبحانه في قوله (والله هو الغنى الحميد) إذ كل ما تم ذكره ما هو إلا جزء يسير لا يزيد عن 10% من الجزء من السماء الدنيا و التي تبعد عنا بمسافة 23 بليون سنة ضوئية وطول السنة الضوئية 9.5 مليون مليون كم ويحتوى هذا الجزء ما بين 200-300 بليون مجرة تتحرك بسرعات هائلة فى مساحات شاسعة تفوق الخيال وصدق من قال فى كتابه الكريم منذ أكثر من 1400 عام في سورة فاطر "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد" (آية 15).
و