+
----
-
كيف نتعامل مع القرآن؟
قال تعالى: (نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) الزمر) أحسن الحديث كتاب الله والحديث هو الكلام الذي له معنى مستمر واحد والقول هو الكلام من حيث لفظه والحديث هو الكلام من حيث معناه وقد ذكر القرآن (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) النساء) و (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) النساء). فالقرآن القول فيه صادق ينطبق على معناه وما من وثيق على وجه الأرض أصدق من كتاب الله تعالى وما من وثيقة على الأرض امتنعت وتمتنع عن التزوير والتحريف إلا القرآن الكريم بدليل قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) الحجر). والقرآن شغل الناس والعلماء ولا تنقضي عجائبه ويعطي عطاء جديداً كل يوم وما من جيل إلا وسيكتشف في هذا الكتاب معجزة لا يكتشفها الجيل الذي سبقه وهذا ليكون حجة على هذا الجيل (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) النمل) المعرفة متدرجة والعلم قطعي ولذلك فإن من أسماء الله تعالى العالم والعليم وليس العارف.
القرآن لا تنقضي عجائبه وهو مناسب لكل العصور إلى أن تقوم الساعة وكل جيل إلى يوم القيامة سيجد في هذا القرآن شيئاً جديداً ولا نهاية لسبر معانيه وتأويله إلا يوم القيامة حيث قال تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) الأعراف).
فتفسير القرآن وتأويله متحرك وليس ثابتاً وكل جيل يصنع لنفسه تفسيرا وتأويلاً ويورّثه للجيل الذي بعده هذا في المتشابه أما في الأحكام فنأخذ من السلف الصالح. وكل جيل ينظر في تأويل الجيل الذي سبقه فيُبقي ما ثبتت حجّته ويضيف الجديد لأن القرآن يٌلبي حاجات كل جيل واكتشافاتهم وبصيرتهم ولا يمكن لمفسّر أو م}وّل أن يدّعي أنه جاء بالتأويل الثابت إلى يوم القيامة.
كيف نتعامل مع القرآن:
أولاً نبدأ باستكمال شروط القرآن والمناخ الذي يجب أن يكون فيه وهذه الشروط هي الطهارة واستقبال القبلة والتباكي والتفكّر أن الله تعالى يكلّمك فتستشعر بهذا الأمرنبدأ بأول مرحلة من التعامل مع القرآن وهي:
التلاوة: قال تعالى (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ (المزّمّل) فالقراءة هي أن تردد ما نزل على محمد r عن طريق جبريل لفظياً بغضّ النظر فهمته أم لم تفهمه. أول ما نزل الوحي (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) العلق) لم يكن الرسول r متهيئاً لفهم كل زاوية مما نزل وكان في فزع شديد ولهذا لم تنزل الآية اتلو وإنما جاءت (إقرأ) ولم تأتي مرحلة التلاوة إلا متأخرة (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) العنكبوت). وهذه القراءة هي التي يتساوى فها الناس جميعاً العربي والأعجمي والعالم والجاهل وأجر هذه القراءة سواء كانت في الصلاة أو للتبرّك أو غيره كما في الحديث الشريف لا أقول ألم حرف وإنما أقول ألف حرف ولام حرف ميم حرف.
وما من معجزة عظمى كالقرآن فكل معجزات الأنبياء ذهبت بذهاب الأنبياء التي نزلت معهم إلا القرآن فهو معجزة خالدة باقية ليوم الدين وهي حُجّة الله تعالى على عباده وما من جيل إلا سيعرف أو يُعرّف بهذه المعجزة.
1. التلاوة: لا تأتي وحدها وإنما هي نتيجةلشرطين من شروط القرآن وهي الاستماع والانصات كما في قوله (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) الاعراف).
من شروط القراءة أن يستمع الناس أولاً ويُنصت الناس ثانياً فهذا يوصلهم إلى التلاوة وهي المرحلة الأعلى من القراءة (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) فاطر) ولم يقل تعالى الذين يقرأون لأن التلاوة هي قراءة العلماء والمفكرين والمتعلمينلكن هذه التلاوة لا تكون إلا بعد حُسن استماع وحُسن إنصات فما الفرق بين السماع والاستماع والإنصات والسكوت ولا نصل للقرآن إلا بمعرفة اللغة العربية.
سمِع: حركة عضوية غير مقصودة نحن نسمع أصواتاً أو قرآناً عرَضاً وليس بقصد فيكون حدثاً غير مقصود (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) القصص) المؤمن لا يستمع للّغو وإنما يسمع بغير قصد.
الاستماع: هو حدث مقصود كأن تذهب خصيصاً لأن فلان يتحدث وتريد أن يفهم ما يقول فالاستماع هو حدث مقصود مدروس مخطط له سابقاً وله هدف وغاية. جاء في القرآن الكريم على لسان الكفار (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فصلت) لا يمتنعون عن الاستماع لكنهم يمتنعون عن مجرد السماع للقرآن أو المرور في المكان الذي يمكن أن يسمعوا فيه القرآن عَرَضاً.على عكس ما جاء في استماع الجن للقرآن في قوله تعالى (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) الاحقاف) هؤلاء جاءوا خصيصاً للاستماع.
إذن الاستماع هو الذي يكون بعناية ويُقصد منه الاستفادة والتعلّم (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) الزمر) والاستماع عبارة عن مَلَكة خاصة بالعلماء وهي أساس الحضارة. والاستماع هي الشرط الأول للوصول إلى مرحلة أعلى من القراءة. قال تعالى (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) الاعراف) ولا بد أن نستمع للقرآن لا أن نسمعه فقط أي استماعاً مقصوداً لنصل إلى تأمّل معانيه وتدبّره.