عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " أن الدين يسر و لن يشاد الدين أحدا ٳلا غلبه فسددوا و قاربوا و أبشروا و استعينوا بالغدوة و الروحة و شئ من الدلجة " .
راوى الحديث هو عبد الرحمن بن صخر الدوسى .. كان اسمه فى الجاهلية عبد شمس و كناه الرسول بأبى هريرة بسبب حمله هرة فى كمه كان قد وجدها فى الطريق .. كان عبد الرحمن بن صخر الدوسى من زهاد الصحابة و حفاظهم و أكثرهم حديثا عن النبى صلى الله عليه و سلم .. أسلم أبو هريرة سنة سبعة من الهجرة فيما بين الحديبية و خيبر و سكن الصفة فلزم باب النبى صلى الله عليه و سلم .
قوله صلى الله عليه و سلم " أن الدين يسر " – هذا اللفظ يحتمل وجوها عدة لمعنى الدين و يحتمل كل وجه معانى مختلفة لباقى أركان الحديث و يتم تناول الحديث من كل وجه من هذه الوجوه الأساسية .
معنى الحديث " من الوجه الأول "
قوله " أن الدين يسر " : - احتمل أن يكون المقصود بالدين هو اﻹيمان أو اﻹسلام أو اﻹيمان و اﻹسلام معا .. فمن وجهه أن المقصود بالدين هو اﻹيمان يكفيه حديث الجارية حيث سألها الرسول صلى الله عليه و سلم : " أين الله ؟ " قالت : " فى السماء " و سألها الرسول صلى الله عليه و سلم : " من أنا ؟ " قالت : " رسول الله " فقال لصاحبها : " اعتقها ٳنها مؤمنة " .. و من وجهه أن المقصود بالدين هو اﻹسلام يكفى فيه من التيسير حديث ضمام حيث سأل الرسول صلى الله عليه و سلم عن اﻹسلام ؟ فقال له الرسول صلى الله عليه و سلم : " خمس صلوات فى اليوم و الليلة " قال : " فهل علىَّ غيرها ؟ " قال : " لا ٳلا أن تتطوع . قال الرسول صلى الله عليه و سلم : " صيام رمضان " قال : " هل علىَّ غيره ؟ " قال : " لا ٳلا أن تتطوع " . قال الرسول صلى الله عليه و سلم : " الزكاة " قال : " هل علىَّ غيرها ؟ " قال : " لا ٳلا أن تتطوع " . قال : - فأدبر الرجل و هو يقول : " والله لا أزيد على هذا و لا أنقص منه " فقال الرسول صلى الله عليه و سلم : " أفلح ٳن صدق " .. و من وجهه أن المقصود اﻹسلام و اﻹيمان معا يكفى فيه من التيسير قوله تعالى ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لما يدخل اﻹيمان فى قلوبكم ) فلم يقبل الله منهم ٳسلاما دون ٳيمان لأن المطلوب اﻹسلام و اﻹيمان معا .
قوله " فسددوا و قاربوا " : يكون السداد هو أن يمشى المرء فى الأمور كلها من غير تقصير / و يكون المراد بقاربوا أى من لم يبلغ حد السداد و قال تعالى فى حق الطائفة التى قامت بالسداد : ( و السابقون السابقون ٭ أولئك المقربون ) / و قال تعالى فى حق الطائفة التى قامت بالتقريب : ( ٳن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم و ندخلكم مدخلاً كريماً ) .
قوله " و أبشروا " : البشارة هنا على معنيين أحدهما معلوم محدود و الآخر معلوم غير محدود .. فأما المعلوم المحدود " العدل " هو ما يرجى من قبول الأعمال و الثواب عليها كما بلغ رسول الله تحديدا عن رب العزة قوله تعالى ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره ) و أما المعلوم الغير المحدود " الفضل " هو ما وعد عز و جل فى كتابه حيث قال ( و يزيدهم من فضله ) فهنا الزيادة معلومة و لكنها غير محددة .
و سبب قوله صلى الله عليه و سلم : " أبشروا " و لم يقل " أيقنوا " فذلك لأمرين :
الأول : - أن اﻹيقان قطع بالأمر و القطع لا يكون ٳلا لله وحده و لا يكون لغيره .
الثانى : - لم يقل " أيقنوا " حتى لا يتكل العامة و الضعفاء فقوله " أبشروا " سداً للذريعة على هذا النحو و فى كلا الأمرين تكون القوة مستمدة من عظم رجاء العبد و لا تكون القوة من الوعد باﻹيقان .
و قوله صلى الله عليه و سلم " و استعينوا بالغدوة و الروحة و شئ من الدلجة " .. الاستعانة هنا هى اﻹستعانة بالزمان و اﻹستعانة بالعمل .. فأما الزمان هو ما ذُكر فى الحديث هو الصبح و العشاء و آخر الليل و أما العمل فالمراد به هنا أعمال الطاعات المختلفة كالصلاة و الذكر و الدعاء و جاء بيان ذلك بالقرآن فى قوله تعالى ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشى يريدون وجهه ) / و قال تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم : " اذكرنى ساعة بعد الصبح و ساعة بعد العصر أكفك ما بينهما " و فى وقت الدلجة يقول صلى الله عليه و سلم : " ينزل ربنا كل ليلة ٳلى سماء الدنيا " و فى رواية " كل ليلة فى ثلث الليل الأخير " و يقول هل من داع فأستجب له و هل من مستغفر فأغفر له و هل من تائب فأتوب عليه " .
معنى الحديث " من الوجه الثانى " : -
قوله صلى الله عليه و سلم " أن الدين يسر " : - المقصود بالدين فى هذا الوجه هو اﻹسلام أو توفية الفرائض .. من وجهه على أن المقصود بالدين هو اﻹسلام فقط دون غيره فانه يكفيه حديث ضمام .. من وجهه أن المقصود بالدين هو الوفاء بالفرائض فيكفيه حديثه صلى الله عليه و سلم " أن الشئ الذى وعدتكم أنكم تخلصون به من الأعمال و تضمنت به النجاة هو توفية ما فرض عليكم " .
و قوله صلى الله عليه و سلم " و لن يشاد الدين أحد ٳلا غلبه " : المقصود به ألا تتشددوا فى المندوبات فينول بكم الأمر ٳلى أن تخلوا بالفرائض مثال ذلك من يبالغ فى قيام الليل فيخل بصلاة الصبح لأنه أجهد نفسه ليلا أو من يبالغ فى الطهارة ٳلى حد الوسواس و ٳذا قام ٳلى صلاة الفرض لم يعطيها حقها من الأركان عامة و الخشوع خاصة .
قوله صلى الله عليه و سلم " فسددوا و قاربوا " : -
فسددوا أى ليكن حد كل شخص على ما يناسب ٳمكانياته و طاقته البدنية و النفسية و الظروف التى تخصه فلا يذهب الشخص ٳلى مذهب من هو أكبر منه فى اﻹمكانيات أو الظروف لأن هذا يهلكه و صاحب السداد هو من أقام الفرائض الخمسة بواجباتها و مندوباتها بيسر و حافظ عليها و قاربوا أى ليكن حد الشخص قريبا من حد الشخص الذى أعلى منه فى اﻹمكانيات و الطاقات .
و قوله صلى الله عليه و سلم " و أبشروا " : البشارة هنا هى لمن زاد على الفرض و لم يقتصر عليه .
و قوله صلى الله عليه و سلم " و استعينوا بالغدوة و الروحة و شئ من الدلجة : الغدوة أى صلاة الضحى و الروحة أى الصلاة التى فى آخر النهار و الدلجة أى صلاة آخر الليل .. خصص الرسول صلى الله عليه و سلم وقت النهار بالتعمير لأن النهار فى وسع الجميع أما الليل فالاستعانة بشئ منه لأنه ليس فى وسع الجميع كما قال صلى الله عليه و سلم فى حديث داود " أفضل الصلاة صلاة داود عليه السلام . كان ينام نصف الليل و يقوم ثلثه و ينام سدسه " و فى ذلك تحريض على تعمير هذه الأوقات بأنواع العبادات .
معنى الحديث " من الوجه الثالث " : -
قوله صلى الله عليه و سلم " أن الدين يسر " : المقصود بالدين فى هذا الوجه قد يريد به أن ما تداينتم به بالنسبة ٳلى من كان قبلكم يسر و ما كلفتم ٳلا بما تطيقون .. فالكلام هنا عن الدين قصد به ٳظهار قدر و أمارات اليُسر فيه مثل ما شرع الله لنا من التوبة بالندم و اﻹقلاع و الاستغفار بينما كانت فى شرع من قبلنا بالقتل كذلك شرع لنا الغسل ﻹزالة النجاسة و كانت لمن قبلنا بالقطع كما شرع لنا من الرخص فان الله عز و جل جعل المخرج عند الضيق و شرع لهذه الأمة الخطأ و النسيان و شرع المولى عز و جل من تيسيرات عند العجز عن ٳقامة الصلاة و جاء ذلك اليسر فى الآية الكريمة ( لا يكلف الله نفسا ٳلا وسعها ) .
و قوله صلى الله عليه و سلم " و لن يشاد الدين أحدا ٳلا غلبه " : -
يريد من شدد على نفسه بالأخذ بالأشد كمن فى حالة تسمح له باستخدام الرخص فلا يأخذها كمن لا يأخذ رخص التيمم لمن لا يجد الماء ٳلا بالمشقة الشديدة و كمن صام و هو فى مرض شديد و كمن ترك اليمين المشروع و حلف بالطلاق و فى هذا المعنى يقول تعالى : ( قد كفر الذين قتلوا أولادهم بغير علم و حرموا ما رزقهم الله ٳفتراءاً على الله قد ضلوا و ما كانوا مهتدين ) .
قوله صلى الله عليه و سلم " فسددوا و قاربوا " : أى تقاربوا بالجد و قوة العزم على الأخذ بالجزم و ترك المحظور و العمل على براءة الذمة .. فسددوا أى أصلحوا حالكم و الأخذ بالرخص .
قوله صلى الله عليه و سلم " و أبشروا " : أى أبشروا فان ما قد يقع المسلم فيه فانه مخلصه و مبلغه ٳلى رضاء المولى لقوله صلى الله عليه و سلم : " رُبَّ ذنب أدخل صاحبه الجنة " .. فالذنب قد يدفع صاحبه ٳلى التوبة النصوح فيكون سبب دخول الجنة و قد يكون الخوف من التقصير دافعا لصاحبه للطمع فى سعة رحمة الله لقوله على لسان الرسول صلى الرسول صلى الله عليه و سلم " من أردناه اصطفيناه فخوفناه و رجيناه و من أبغضناه أبعدناه و ألهيناه " .
و قوله صلى الله عليه و سلم " و استعينوا بالغدوة و الروحة و شئ من الدلجة " : أى أن من واظب على الأعمال فى الأوقات المذكورة يرزق بها العون على ما نواه من أفعال الطاعات .