ظل الشعب الجزائري ينهض بالرسالة الأدبية الواقعية
الجهادية منذ بداية النهضة الوطنية الحديثة
بالرغم مما مر به أثناء فترة الاحتلال من
مضايفات .. وما أصابه من ابتلاءات..
وكان الأدباء الجزائريون قد أخذوا مواقعهم في جبهات هذا الصراع إلى جانب شعبهم طوال هذه الفترة ، كانوا إلى جانبه يحثونه على الثبات في مواقفه ويحضونه على الاستمرار في جهاده ، فظلوا على هذا الطريق يغذون مشاعر الثورة في النفوس ، رافعين راية الثورة وملوحين بأعلامها ، يرهصون بها ويمهدون لها، حتى أكمل الشعب إعداد عدتها وتوفير أسبابها، وقام بتفجير بركانها في قلاع المعتدين ، فكان الجهاد وكانت الملاحم ، وكان التضحيات، وكانت البطولات .
ومضى الشعراء الجزائريون يواكبون أحداث هذا الحلم السارالذي تحقق ، وهذه الأمنية الغالية التي تجسدت ، وهذه الثورة المجيدة التي اندلعت ..
وكانت أرض الجزائر ، كل الجزائر : جبالها وصحاريها ، سهولها وتلالها ، أوديتها وشعابها ، أريافها وبواديها ، قراها وحواضرها ، كانت هذه المعالم كلها ميادين جهاد وساحات مجد ، ومسارح عمليات ، خاضها أبطال جيش التحرير الوطني : أفواجا وفصائل ، كتائب وفيالق ..
وكان للفدائي الجزائري في وقائع هذه الثورة ، ملاحمه وأمجاده في قلب المدن الجزائرية ، في ساحاتها وشوارعها .. فكان محمد، وكان أحمد، وكان مصطفى، وكان علي،وغيرهم .. لقد كانوا كثيرين .. وكان البطل منهم يسقط شهيدا في ميدان الشرف ، فيأخذ موقعه أخوه في التنظيم ، وتمضي القافلة على الطريق إلى غايتها ..
وكانت جميلة ، وكانت فاطمة ، وكانت فضيلة، وكانت زهرة، وكانت حسيبة، وغيرهن كثيرات .. كانت تسقط البطلة منهن في ساح الفداء ، فتأخذ أختها موقعها في التنظيم وتمضي القافلة على الطريق إلى هدفها .. فكان من ذلك المئات، بل الآلاف من الفدائيين والفدائيات الذين صنعوا المآثر في يوميات ثورة الجزائر ..
واستطاع الشعب الجزائري - وقد دخلت ثورته عامها الثالث 1957- أن ينقل معاركها إلى أرض المحتلين ، إلى الولاية السابعة من ولايات الثورة المظفرة، إلى (باريس) عاصمة فرنسا ، هنالك حيث صنع أبناؤه من الفدائيين ببطولاتهم ، وأمجاد وطنهم ، وكتبوا بدمائهم قصة جهاد شعبهم وعزمه على استرجاع حقوقه و افتكاك حريته من بين مخالب المعتدين الفرنسيين .. وكان من بين أهم هذه العمليات الفدائية تلك الملحمة التي صنع قصتها الفدائي محمد بن صدوق في باريس ، تنفيذا لأوامر الثورة في العميل ( علي شكال) ، ونشير إلى أن المتصفح لديوان الثورة الجزائرية من الشعر الجزائري لا يعثر فيه على ما يخلد هذه العملية سوى قصيدة واحدة ( مصرع خائن ) للشاعر المجاهد المهاجر عبد السلام الحبيب الجزائري ، فماذا عن هذا الشاعر ؟ وماذا عن هذه القصيدة ؟
الشاعر عبد السلام : ولد بدمشق الفيحاء 1918 ، وتوفي- رحمه الله- بها 1980.
كان أبوه السيد محمد الحبيب المهر قد هاجر مع أسرته من مدينة معسكر إلى الشام في أعقاب رحلة المجاهد الأمير عبد القادر بطل المقاومة الوطنية إليها ..
دخل الشاعر معركة الحياة العامة في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، وبدأ في هذه الفترة يعقد أسباب صلته بوطنه، وكانت فاتحة شعره في وطنه الجزائر قصيدته في الأحداث الدامية التي وقعت في الثامن من مايو 1945 ، وقتل فيها القتلة من جند فرنسا حامية الحقوق الإنسانية !45000 شهيد جزائري عليهم رحمة الله ، فتركت هذه الحوادث جروحا عميقة في قلب الشاعر ، فخلدها في شعره ، وعندما قامت الثورة المباركة كان من أوائل الشعراء الجزائريين الذين باركوها ، وكتب فيها شعرا كثيرا خلد فيه معظم أطوارها مرحلة مرحلة ، وسجل كثيرا من بطولاتها مأثرة مأثرة ، وندد بمعظم جرائم المحتلين فيها جريمة جريمة ، ولوح ببشائر النصر فيها مرات ومرات ، وقد نشر معظم شعره الذي صورفيه بعض الجوانب من قصة ثورة شعبه ، وذلك في مجموعته (أذكريني يا جزائر ..) الجزائر 1986 .
ومن ذلك : قصيدته (مصرع خائن ..) موضوع هذه الكلمة ، وهي من الشعر الجديد، شعر التفعيلة ، وقد خلد فيها الشاعر تلك العملية الفدائية الآنفة الذكر ، وصور فيها، في خمسة مشاهد مجريات تفاصيلها ، وما يتصل بها وببطلها، وبالمستهدف منها الخائن العميل (علي شكال)، وبوقعها المفزع الأليم على نفوس الظالمين ، وأثرها الطيب على مسيرة الثورة ، وعلى نفوس الجزائريين ..
وقد استهلها على لسان بطلها المجاهد محمد بن صدوق، وهو يتوجه بالخطاب إلى ذلك الخائن العميل (علي شكال) : خذها بـ(فعل الأمر) الصريح كطلقة رصاصة فدائي مجاهد ، خذها أيها الوغد الخؤون ، خذها ، وإني لن استريح .. ولن يهدأ لي بال .. ولن يسكن لي جنان .. حتى أنفذ فيك حكم الشعب وحكم الثورة ، حكم الإعدام ، خذها أيها العميل:
خذها ...ودمدم من مسدسه الرصاص
خذها...فقد حان القصاص .. الويل لك
يا خائن الشعب الجريح
لن أستريح حتى تموت .. سأقتلك
وإن الفدائي البطل- وهو يقوم بعمليته هذه ، وينفذ ما عاهد الله وشعبه عليه-لم يقم بذلك باسمه الشخصي، ولا بدافع نزوة انتقام من أحد، ولا لتصفية حسابات سياسية أو تحقيق مآرب شخصية ، وإنما قام بما قام به .. باسم الجزائر المجاهدة ، باسم الشعب الأبي باسم الآلاف من الجزائريين المشردين و المضطهدين والمقهورين والمجاهدين والشهداء ، باسم الحرية والمستقبل :
باسم الوطن ..باسم العذارى الشاردات
باسم الثكالى الوالهات .. باسم الصغار.. الهاربين من الدمار
اللاجئين إلى الكهوف يتضورون.. باسم الجراح الراعفة
باسم الجموع الزاحفة .. باسم الجزائر ..و أمتي المتحررة .
وكم كانت أضغان الطغاة كبيرة و غيظهم شديدا !عندما أدركوا عين الحقيقة التي لم يكونوا يريدوا أن يعرفوها ، لقد عرفوا أن بطل تلك العملية جزائري ، ومن أوراس الأشم .. ومن أبنائه الأباة .. فزادهم ذلك حقدا على حقد ، وكمدا على كمد :
وتجهم الأوباش قد عرفوك من إفريقيه
الجبهة السمراء .. ليست خافية
لكنهم لم يعهدوها غاضبة .. مزورة .. متحدية
وعلا ضجيج الناقمين .. جزائري .. جزائري ..
ومن العصاة ..أبناء أوراس العداة
الخارجين عن إرادتنا العداة