إذا كانت الأقدار قد حرمته من فرصة التميز رغم القدرات الاستثنائية التي يملكها باعتراف الجميع، وجعلت منه مجرد موظف مغمور في إحدى دوائر الدولة وبراتب شهري بالكاد يسد الحاجيات الأساسية، فإن هذا لم يمنعه من أن يحلم بمستقبل أفضل لولده الوحيد وأن يعمل جاهدا كي يتميز على الجميع حتى لو كان رئيس الوزراء واحدا منهم.
تدعي أمه ويؤيدها أبوه أحيانا بهزة من رأسه يصعب ادراك مغزاها الحقيقي بأنهم أطلقوا عليه أسم (قاسم) لأنه جاء الى هذه الدنيا في الليلة التي يشعل فيها الجميع رجالا ونساء وأطفالا الشموع بمختلف أحجامها الصغيرة والكبيرة والمحاطة بأغصان الليمون والبرتقال وبقطع الكرتون الدائرية التي تحمي الأيدي من قطرات الشمع الذائب وذلك احتفالا بعرس القاسم، إحدى ليالي الأيام العشرة الأولى من شهر محرم الحرام (أو عاشوراء) حيث تتسربل مدن العراق الشيعية بمظاهر الحزن والسواد باستثناء هذه الليلة التي يستبدل فيها الحزن بابتسامة كسيرة.
وعندما رزق بولده الوحيد أطلق عليه اسم (عبد الكريم)، أولا بغضا بالبعثيين، وثانيا للتيمن بذكرى نصير المظلومين وزعيمهم الأوحد (عبد الكريم قاسم).
على امتداد مراحل نشأته لم يدخر الأب جهدا في تعليمه وتثقيفه وتوجيهه حيث تكمن أجمل أحلامه، فلقد كان حريصا منذ البداية أن يطلع ولده على الصورة الحقيقية والناصعة لحياة زعيمهم التي ظل العراقيون يحتفظون بها في نفوسهم بعيدا عن أساليب الدسيسة والتشويه التي مارسها البعثيون على امتداد عقود. وكان حقا في غاية السعادة عندما وضع بين يدي ولده ارثا غنيا وغاليا وثمينا حرص على صيانته والاحتفاظ به طوال سني القهر والاستبداد رغم المخاطر الجمة التي كانت تتهدده والتي كادت في أكثر من مناسبة أن تودي بحياته أو أن ترمي به في غياهب السجون والمعتقلات.
بدت الدهشة واضحة على وجه عبد الكريم وهو يقلب أكداس الصور والصحف والمجلات وسأل أباه:
- ما كل هذا يا أبي؟
أجابه أبوه بنبرة تفاخر واعتداد:
- اقرأها كي تعرف كل شيء عن عبد الكريم قاسم.
لكن ولده على ما يبدو لم يكن يأبه للأمر كثيرا، وجاءت خيبته الأولى عندما اجتاز الدراسة الثانوية بمعدل متواضع لايؤهله للمنافسة على المراكز المتقدمة من أجل الحصول على منحة دراسية تخفف عن كاهله عبء مصاريفه الدراسية...
لكنه رغم كل شيء لم يتزعزع إيمانه في تحقيق أجمل الأحلام في ولده الوحيد عبد الكريم قاسم. قال له وهو يصر على أسنانه:
- لاتقلق، سوف أعمل المستحيل كي تدخل الكلية العسكرية.
أجابه ولده معلقا وبنبرة خالية من أي تعبير:
- الكلية العسكرية لا تأبه للمعدل يا أبي قدر اهتمامها بأمور أخرى كالعلاقات والارتباطات و......
ولم يكمل...
وخيرا فعل، لأن الكلمة التي كان يمكن أن يقولها ستقض مضجعه أكثر من اي أمر آخر..
جمع الوثائق المطلوبة وتوجه إلى أحد مراكز التقديم يدفعه مزيج من خشية وأمل ويحصنها دعاء غامض عسى أن ترحمه الأقدار هذه المرة وتغض الطرف عنه. سأله الموظف المسؤول عن استلام الوثائق وكان وجهه أشبه بقطعة حجارة:
- هل لديكم في العائلة ارتباطات حزبية معينة؟
ابتلع صدمته وسأله ببلاهة لم يتعمدها:
- هل هذا ضروري؟
دفع الموظف بطاقة صفراء في وجهه دون أن يكلف نفسه عناء الرد على سؤاله، فتلقفها بأصابع مرتعشة وعاد يسأله مرغما:
- ماهذه لو سمحت؟
رفع الموظف رأسه وصرخ في وجهه بنبرة برمة:
- فحص طبي
ارتأى الأب عندها أن يبتلع كل تساؤلاته حفظا لماء الوجه وحفاظا على مستقبل ولده الذي قد يتعرض لهزة تودي به وبأحلامه. قال لنفسه بنبرة تطمين وتأكيد: مادام هنالك فحص طبي فهذا يعني بأن الأمور تسير على مايرام، وسوف أترك الباقي لعبد الكريم كي يستكشف التفاصيل وهو قادر على ذلك من دون شك.
خلال بضعة ايام أكمل عبد الكريم الفحوص الطبية المطلوبة وجاء ناجحا فيها جميعا مما عزز الأمل في نفس أبيه بقرب تحقق الخطوة الأولى من الحلم الكبير. وقالوا لهم في مركز التقديم بأن النتائج سوف تعلن خلال أسبوع أو عشرة أيام...
ولم يكن يملك صبرا يعينه على الانتظار حتى ظهور النتيجة. كذلك أمه أصابتها حمى الحماس بقرب الفرج، ونذرت أن توزع خبز العباس في حال قبول ولدها في الكلية العسكرية. ودلا الأب بدلوه أيضا وقال بصوته المتهدج:
- إذا قبلوه فسوف أذبح خروف وأوزع لحمه.
ولم يقل على الفقراء والمحتاجين لأنه قالها بين زملائه في العمل، وهم من دون شك أحق باللحم من غيرهم. وباعتباره مدير قسم الشهادات في مديرية التربية ويحتل الدرجة الثالثة ضمن سلم الوظائف فإن البعض ممن كانت لديهم الجرأة على الجهر بآرائهم رأوا أن خروفا واحدا بحسب الضوابط الاجتماعية قليل بحق المناسبة وقليل بحقهم طالما حصة الواحد منهم لن تكون شيئا يذكر. ووجد نفسه وهو ما يزال يركب صهوة الحماس يعلن على الملأ:
- صدقوني سأذبح خروفين بدلا من واحد اذا جاءتني البشارة بقبول عبد الكريم في الكلية العسكرية
وفي الحال بدأ يفكر بالرجل المناسب الذي سوف يستدين منه سعر الخروفين.
وبعد انتظار أقض مضجعه وأنهكه وسرق النوم من عينيه جاء اليوم الموعود. يوم اعلان النتائج. في صباح ذلك اليوم وهو يترقب المجهول، كان مشوش الذهن محمر العينين. سأل عن عبد الكريم وهو يلوك قطعة الصمون من دون شهية. قالت له أمه بأنه ما يزال يغط في النوم. لم يعلق ولم يعترض، لأنه، ببساطة، في نهاية المطاف سيكون الجاني والمجني عليه. لكن أمه سألته:
- راح تروح اليوم تجيب نتيجة كروومي...؟
كأنه لا يبالي أو لا يهتم أو لا يعنيه الأمر. أومأ برأسه وقال لها:
- انشاالله.....
حتى أمه لاتدرك أو ربما لاتملك القدرة على الادراك بأنه لا يفكر الا في نتيجة ولده، فهي همه الاول والأخير، وعسى أن تكون الساعات القادمة حبلى بأجمل البشائر.
في الطريق الى العمل راح يفكر في احتمالات الحصول على النتيجة بأسرع وقت ممكن. أولا الاتصال تلفونيا بمركز القبول والاستفسار عن النتائج لعلهم يتكرمون ويعلمونه بنتيجة ولده رغم قناعته بأن هذا الاحتمال لن يقود الى ما يرجوه. الاحتمال الأقوى أن يتوجه بنفسه الى المركز ليحصل على النتيجة، وهذا يتطلب حصوله على اجازة زمنية من العمل، عندها يقع هذا الاحتمال في دوامة الاجراءات الروتينية مما يعني التأخير في كل الأحوال اذا سارت الامور بشكل طبيعي دون استثناءات طارئة. الاحتمال الأخير أن يكلف أحدا من معارفه بالتوجه الى مركز القبول وهذا ما لايرغب فيه على الاطلاق.
أجرى اتصاله الأول بمركز القبول وهو يجلس إلى مكتبه وقبل أن يبدأ بفحص الأوراق المكدسة أمامه. رنين متواصل من دون رد وهذا ما توقعه بالضبط. كان متوترا، مشدود الأعصاب عاجزا عن التركيز لانجاز عمله اليومي. ورأى في تقديمه الطلب للحصول على الاجازة الزمنية سبيلا لتهدئته بعض الشيء.
قال له مدير الادارة وهو يهز رأسه نفيا:
- اليوم بالذات غير ممكن سيد قاسم.
بلعومه المتيبس لم ينجده في اطلاق تساؤله بصوت مسموع.
- ليش، أكو شي؟
عاد مدير الادارة يهز رأسه ايجابا هذه المرة:
- نعم، المدير العام طالبنا لاجتماع طارئ.
- شوكت هذا الاجتماع؟
- لا أحد يعرف، في أية لحظة.
تسمر قاسم في موضعه كأنه ليس في نيته أن يستسلم. قال بنبرة مترددة متسائلة:
- يعني ماراح أكدر أطلع حتى أعرف نتيجة عبد الكريم؟
وسمعه يقول وهو في طريقه الى الخارج:
- وليش مايروح ابنك بنفسه وياخذ نتيجته؟
عاد الى مكتبه وقد ازداد تشتتا ، وركبه غضب مفاجئ:
- بحق السماوات أيهما أهم؟ اجتماع طارئ مع المدير العام أم نتيجة ولدي؟
وضع رأسه بين يديه وراح يقلب حاله وأحوال الدنيا من حوله...
لقد عاش حياته وهو يكدح من أجل توفير عيشة كريمة له ولعائلته وكان دوما سواء في مجال العمل أو بين معارفه انموذجا للاستقامة والشرف والأمانة، وكانت سمعته بين الناس هي مقياس نجاحه في الحياة، ولم يدر في خلده في يوم من الأيام بأن السلطة والثروة هي المقاييس الحقيقية لدى الآخرين. المدير العام، على سبيل المثال، مجرد مدرس فاشل بكل المعايير العلمية، لكنه بين ليلة وضحاها صار المدير العام، لأنه وببساطة شديدة لديه ارتباط بأحد الأحزاب الدينية الحاكمة، وأيضا، وتلك هي الطامة الكبرى، لأنه (سيد)، تلك الكلمة السحرية التي بامكانها أن تفتح كل الأبواب المستعصية. مولانا طلباتك أوامر على راسنا من فوق. واذا أراد المدير العام أن يحصل على نتيجة ولده أو أحدا من أقاربه فلن يتعدى الأمر بضع دقائق، إذ سوف يستدعي مدير مكتبه ويناوله قصاصة ورق دوّن فيها الاسم المطلوب، وسيقول له بنبرة هادئة، غير قلقة على الاطلاق، وآمرة:
- اتصل بمركز القبول وشوف لي نتيجة (احسان)، بس شوية بسرعة لو أمكن.
هكذا وبلمح البصر ستكون نتيجة ابنه أو كائنا من يكون على مكتبه وبين يديه....
وعاد يحدق في جهاز التلفون. قال محدثا نفسه: لابأس من المحاولة. وكرر الاتصال بمركز القبول. رنين متواصل من دون رد. ولم يكن من عادته أن يلعن أو يشتم، لكنه ولأول مرة في حياته وجد نفسه يضرب سطح مكتبه بقبضة كفه ويطلق سلسلة من الشتائم المقذعة والتي سيكون هو أول من يقرف لسماعها..
أطلق التلفون رنينا متواصلا، وظهر اسم مدير مكتب السيد المدير العام على شاشة الجهاز.
_ أستاذ قاسم تفضل لقاعة الاجتماعات. السيد المدير العام طالبكم الان.
حمل بضعة أوراق معه وتوجه مرغما الى غرفة الاجتماعات مستسلما لقدره، وقد حاول جل استطاعته أن يقنع نفسه بأنه حال انتهائه من الاجتماع، والله أعلم متى سوف ينتهي هذا الاجتماع فسوف يتوجه مباشرة الى مركز القبول للحصول على النتيجة.
بعد اكتمال نصاب المجتمعين، دخل عليهم المدير العام يتأبط ملفا، والقى عليهم سلاما جافا وبوجه يخلو من كل شيء باستثناء الصرامة التي هي على ما يبدو من متطلبات السلطة. وكان قاسم قد احتل مكانا بعيدا عن الواجهة الى جانب زميل ضخم الجثة يصلح ان يكون ساترا يخفيه تماما عن العيون المتربصة وبالذات عيني المدير العام الذي ابتدأ الكلام متحدثا عن معايير قياس الأداء الوظيفي المطلوب اعتمادها من أجل تحقيق التميز...
ثم تحول الحديث تدريجيا الى لغط وطنين يصم الأذنين حتى ماعاد قاسم يفهم منه شيئا كأن طبولا تقرع في رأسه، بل في حقيقة الأمر ماعاد يأبه منذ زمن بعيد بما يجري حوله قدر اهتمامه بأمور تخصه وتتعلق بحياته التي توشك أن تضيع في خضم الفوضى التي صارت تتحكم بسلوك الناس وتقرر مصائرهم. هز رأسه رافضا رفضا قاطعا أن يرضى لنفسه بالانجراف في تيار التافهين والمتخلفين.
- تفضل سيد قاسم
لم يع معنى واضحا للكلمات التي اندلقت في أذنيه فجأة. كانت الوجوه من حوله تنظر اليه بارتباك وغضب، وأحدهم يلوح له بيده ويشير الى الأوراق أمامه. تدريجيا بدأ يدرك أبعاد الموقف من حوله، وكان ذلك صوت السيد المدير العام الذي أعاده بقوة مع الاخرين.
- تفضل سيد قاسم، دورك.
غمغم قائلا:
- حاضر استاذ
لم يرتعش ولم يرتبك رغم تهدج صوته في الكلمات الأولى، بعدها راح يلخص انجازات قسمه بارقام ونسب علمية دقيقة جعلت الحقد والغيرة تتحركان في أكثر من موضع من نفوس الحاضرين، ولعل المدير العام نفسه، بحسب خبرته الطويلة في أصول علم الانتهازية وأساليبها، لم يكن سعيدا بذلك لأته يعلم علم اليقين بأن قاسم ليس من أولئك الذين يدلسون أو يتملقون، وهذا النوع من الناس قد يكون أكثر خطرا من الآخرين على المدى البعيد.
كان منشغلا بارقامه ومعادلاته التقييمية عندما شعر برعشة تسري في الجزء السفلي من جسده. سحب نفسا عميقا وسكت للحظة لأن الرعشة لم تتوقف، لكنه عاد سريعا الى الكلام وهو يبحث عن سبب منطقي لتلك الرعشة المفاجئة...
وتذكر جهاز الموبايل القابع في جيب بنطلونه فتدحرجت قطرة عرق على امتداد ظهره تحت القميص، وتمنى في تلك اللحظة لو يقف على حقيقة هذا الاتصال المفاجئ، لكنه لم يجرؤ على مخالفة القواعد والاصول والتعليمات ووجد نفسه مرغما على مواصلة حديثه الشيق حتى آخر السطر.
أنهى المدير العام الاجتماع بكلمة ثناء على الجهود الكبيرة المبذولة من أجل تحقيق أعلى درجات التميز في الأداء وفي خدمة المواطنين، ثم استأذنهم منصرفا، بينما كان قاسم يتحسس جهاز الموبايل بأصابع كفه طول الوقت...
أخرج قاسم الموبايل من جيب بنطلونه حالما بدأ الآخرون بلملمة أوراقهم وتبادل تعليقاتهم السمجة. كان انتباهه منصبا على معرفة تفاصيل الاتصال المفاجئ. كم سيكون جميلا لو كان الاتصال من مركز القبول ليعلمونه بنتيجة ابنه الذي جاء ضمن قائمة المقبولين. على كل حال، الاتصال لم يكن منهم بل من ولده عبد الكريم الذي على مايبدو صحا من نومه متأخرا واراد أن يطمئن على آخر الأخبار وربما بدفع من أمه أيضا.
قال محدثا ولده عبر التلفون مبررا وموضحا:
- بابا أنا كنت في الاجتماع و....
لكن ابنه قاطعه فجأة ولم يعطه الفرصة كي يكمل كلامه.
- بابا أنا رحت للمركز واسمي طالع في قائمة الاحتياط وتسلسلي العاشر
تقلصت خلايا رأسه لدى سماعه للكلمة، وشعر بألم في رقبته. حاول أن ياخذ نفسا عميقا لكن رئتيه لم تسعفاه. قال متسائلا وأذناه ما عادتا تسمعان غير صدى تلك الكلمة المشؤومة:
- ليش احتياط؟
وانقطع الخط...
يبدو أنه، وكذلك ابنه، خارج منطقة التغطية.
لكن صدى الكلمة المشؤومة ظل يتردد في رأسه المشتت: احتياط، احتياط، احتياط...
كان في تلك اللحظة فاقدا تماما للقدرة على ادراك المعاني بشكل صحيح. لم يتحرك من مقعده، ولم يغادر غرفة الاجتماعات. كان وحيدا، معزولا عن العالم المحيط به، وسكاكين حيرته تحفر أخاديدا موجعة في صدره.
- لماذا تصر الأقدار على قتل آخر أحلامي وبلا أدنى رحمة؟ لماذا؟
نهض واقفا على قدميه وقد تصلبت عضلات رقبته وجحظت عيناه واستولى القرف على ملامح وجهه. زم شفتيه وهو يحدث نفسه بصوت مسموع:
- سأذهب اليهم كي افهم الموضوع، وعسى أن أجد حلا..
وفي مركزالقبول، أمام الموظف المسؤول حاول أن يبدو متماسكا وهو يسأل عن نتيجة ولده.
- احتياط
حاول قاسم أن يبدي دهشته فلم يفلح، وتملك الحزن تقاطيع وجهه. كان بائسا.
- بس ليش احتياط؟
تراجع الموظف المسؤول في كرسيه الجلدي الدوار وذراعاه تستلقيان على المسندين، ثم قال موضحا:
- أخي العزيز، أكيد اللجنة المختصة اعتمدت مجموعة من الأسس والمعايير في تصنيف المتقدمين، وعلى ضوء هذي الأسس والمعايير طلع ابنك في قائمة الاحتياط.
لكن التساؤل لم يرعو، بل ظل معلقا ومتدليا أمام عينيه ويتحرك كبندول الساعة دون توقف..
- ليش احتياط...؟
شعر بشيء يلكزه في خاصرته، وعندما استدار ليتأكد من ذلك الشيء رأى عينين تلمعان وتحاورانه بلغة غريبة عليه. كان ملتصقا بخاصرته، قصير القامة، أصلع الرأس، حليق الوجه تماما باستثناء حاجبين كثين سوداوين.
زاد ذلك من تشنجه. قال بصوت أقرب الى الحشرجة:
- شكو، شتريد؟
لم يرد عليه، لكنه سحبه من ذراعه وعيناه منغرزتان في تقاطيع وجه قاسم المتشنجة والذي عاد يكرر بنبرة صوته المتحشرجة:
- أخي قل لي انت شتريد..؟
ظل القصير على صمته حتى غادرا الغرفة بين جر وجذب وحشرجات الاحتجاج.
وفي ركن منعزل من الدهليز الاسمنتي المعتم حرر القصير طريدته وفتح ذراعيه ليقول بصوت أقرب الى الهمس:
- ابنك طالع في قائمة الاحتياط، صحيح؟
لم يتكلم، ولم يبتلع الموقف بأبعاده المضحكة والمثيرة للغضب، لكنه حاول أن يحتفظ بهدوئه، وكانت عيناه رغم ذلك حارقتان وصارمتان وهو يحدق في القزم القميء الواقف بين يديه، والذي أدرك في الحال بأن الوضع مهدد بالانفجار. عندها سارع الى القول:
- وانت أكيد تريد ابنك ينقبل بالكلية..
تكورت الشتيمة بين شفتيه، وكان على وشك أن يطلقها على رأس محدثه، لكنه اضطر مرغما أن يبتلعها وأن يقول أخيرا بصوته المتحشرج:
- يعني انت مجرجرني وراك حتى تقول لي ابني طالع بالاحتياط واني اريده ينقبل. حضرتك منو وشتريد مني بالضبط؟
كان صوت قاسم مرتفعا بعض الشيء مما لفت انتباه عدد من المتواجدين في الدهليز والذين على ما يبدو كانوا ينتظرون دورهم لمقابلة الموظف المسؤول.
تراجع القصير منكمشا في العتمة وقد بدا القلق واضحا على وجهه وفي عينيه. قال بذات النبرة الهامسة:
- بس لا تعصب أخي، أنا....أريد فائدتك لا أكثر ولا أقل. اذا ما يعجبك خلاص على راحتك
وتظاهر القصير بأنه ينوي التحرك مبتعدا....
تنبهت حواس قاسم وأضاء بصيص الأمل في صدره من جديد. عندها أمسك بذراع القصير كمن يتشبث بطوق النجاة وقال متسائلا ولكن بنبرة خفيضة هذه المرة:
- لحظة انتظر أخي...يعني شلون فائدتي؟ ما فهمت عليك؟
كان القصير يحدق في كفيه المتشابكتين على صدره دون أن يسارع الى الرد مباشرة على تساؤل الاخر كأنه كان يتلذذ بتذوق طعم تلك اللحظة الحاسمة.
عاد قاسم يكرر تساؤله بنبرة متضرعة:
_ نعم أخي، شنو قصدك؟
رفع القصير رأسه ونظر في وجه محدثه الذي بدا بائسا، شديد الحزن، ثم قال ببطء مدروس:
- المسألة بسيطة جدا. بس عليك أن تدهن السير..والامور راح تتغير تماما
رغم شيوع هذا المصطلح بين جميع العراقيين ومعرفتهم الدقيقة بالمعاني التي تقف وراءه، الا أن قاسم بدا كالأبله العاجز عن الفهم، وصدى الكلمات يرن في أذنيه دون استجابة واضحة منه.
أضاف القصير قائلا:
- أنا مستعد أن أضمن قبول ابنك...
رغم ذهوله، بدأت الأمور تتضح تدريجيا أمام عيني قاسم. قال أخيرا رغم عجزه عن الامساك بالكلمات:
- بس...لازم...أدفع...
كان القصير جاهزا للانقضاض، ولم يدع تلك الفرصة تفلت من يده. قال على عجل وهو يدس بقصاصة ورق في يد قاسم:
- اثنين مليون، وعندك مهلة اسبوع حتى تدبر أمورك... وهذا رقمي معاك..
وتحرك مبتعدا على عجل دون أن يمنح الاخر فرصة للتعليق أو الاعتراض...
غادر قاسم مركز القبول وركب سيارته دون أن تكون لديه وجهة محددة. كان عقله في مكان آخر غير رأسه. عيناه جاحظتان، وفمه جف حتى تيبس...
كان يريد أن يستجمع شيئا من أفكاره المتناثرة في عاصفة الفوضى. اثنين مليون. راح يكرر الرقم مع نفسه، اثنين مليون، اثنين مليون عسى أن يفتح ذلك مسارا لبصيرته المنكفئة. كيف يمكن له أن يتدبر هذا المبلغ وهو يعيش بالكاد على الكفاف بعد أن حرم نفسه من متع كثيرة، وكرس كل شيء من أجل بيته ومستقبل ولده، فهو لايدخن ولايشرب ولايسهر ولايمارس ما يفعله الرجال الاخرون، لكنه مع ذلك يظل عاجزا عن ربط طرفي حبل حياته بيسر ومن دون عسر.
ظل يهيم في الطرقات المزدحمة دون أن يعي ما يجري حوله أو حتى أن يسترجع مدركاته الحسية الضائعة...
صار يردد بصوت مرتفع: اثنين مليون...اتنين مليون...يا أولاد القحـ............
وكان الضجيج يصم الأذنين..
الضوء الأخضر يتوهج في عينيه والضجيج يتواصل...
أخضر، أخضر، اثنين مليون...
اللون الأخضر شده فجأة الى ما حوله وأعاد اليه حواسه، فكأنه خرج للتو من اغفاءة لينزلق داخل كابوس مريع. الاشارة الضوئية خضراء وقد تسمر أمامها بينما هورنات السيارات المصطفة خلفه تواصل صب زعيقها وغضب سائقيها على رأسه.
ضغط على البنزين متحركا وهو يلعق سيل الشتائم والاهانات التي انهالت عليه وظل صداها يتردد في أذنيه الى حين...
لم يكن راغبا في الحديث مع أحد رغم تشتته وحيرته وحاجته الماسة الى المشورة. عندما عاد الى البيت أخيرا بعدما تعب من اللف والدوران في الشوارع والطرقات دونما هدف محدد، تسلح بتكشيرة عبوسة واندفع مباشرة الى غرفته دون أن ينظر الى زوجته التي علت الدهشة وعلائم الاستغراب والاستنكار وجهها، فتخلت عما كان بين يديها ومسحت يديها المبللتين بطرفي ثوبها وتحركت خلفه حيث وجدته جالسا على حافة السرير زائغ البصر متجهم الوجه كأنه تمثال من الشمع في متحف للسحرة والمشعوذين. وقفت أمامه وسألته بنبرة شديدة الهدوء متعمدة على مايبدو على عدم التطرق لموضوع ابنها:
- شبيك؟ أكو شي؟
رفع رأسه ونظر في وجهها كأنه ينظر الى شيء بعيد عديم الملامح، لكنه لم يتكلم، وعاد ليحدق في كفيه المستقرتين في حجره. تنبهت أحاسيس المرأة وشعرت بالخوف مما تراه في زوجها. قالت بنبرة أكثر توترا:
- يا ساتر! شنو اللي صار؟ قل لي..
لكن قاسم لم يكن في مزاج يسمح بالدخول في جدالات عقيمة. برم شفتيه، ولف وجهه ناحية الحائط البعيد وقال بنبرة غلب التوسل فيها على البرم:
- ما كو شي، بس شوية تعبان...فإذا ممكن تتركيني لوحدي شوية....
رغم ذلك جاءت كلماته أشبه بشتيمة لاتغتفر. صرخت به زوجته وهي تفتح كفيها أمامها كأنها تفتح سجل حسابها العسير:
- يعني شنو؟ ما فهمت عليك. آني مانعتك من الراحة أو منغصة عليك راحتك وإلا شنو؟
أدرك قاسم بأن هذه المرأة لن تتركه في حاله وأن الأمور سوف تزداد سوءا إذا أصر على الانكفاء والنوء بنفسه وبمصيبته بعيدا عن الجميع وأولهم زوجته. التفت ناحيتها تدفعه رغبة ملحة للتخلص من غصة الألم المتكلس في صدره. قال رغم عجزه عن النطق بالكلمات:
- يريدون اثنين مليون
سألت بصوت أصابته رعشة الشلل:
- منو؟
رد عليها وكأنه يوشك أن ينفجر من الغيظ:
- منو.. ما أعرف منو، بس يريدون اثنين مليون حتى ينقبل كريم بالكلية.
بعد أن سقط الرقم كالصخرة على أم رأسها، حلق بأصفاره العديدة كالعصافير أمام عينيها، بعدها رددته مع نفسها دون أن تعني من ذلك شيئا معينا...
ثم تنبهت لطبيعة المأزق فسألت زوجها:
- اشراح تسوي؟
كأنما كان قاسم في انتظار من ينكشه كي ينفجر فيه البركان الذي ماعاد قادرا عل الاحتباس في صدره. زعق بصوت تردد في فضاء الغرفة:
- المسألة مو مسألة فلوس وبس. المسألة مسألة مبدأ وأخلاق.....
سكت ليسحب نفسا عميقا، ثم عاد ليضيف بنبرة أقل حدة:
- أنا عمري ما خنت مبادئي، لا أخذت ولا أعطيت رشوة ....
عادت زوجته تسأله كأنها لم تفهم شيئا من كلامه.
- وبعدين، اشراح تسوي؟
- ما أعرف..
لكنه... وقبل أن تغادر زوجته الغرفة صرخ مستهجنا:
- وبعدين مبلغ اثنين مليون مو بسيط..
في صباح اليوم التالي، في مكتبه، كان قاسم مايزال حبيس دوامة تساؤلاته الحائرة، ولم يفلح رغم محاولاته اليائسة في الخروج منها. كان يسأل نفسه ثم يعيد ويكرر السؤال والجواب..
لو رضي أن يطأطئ رأسه قليلا كي يغض الطرف عن موضوعة المبدأ الأخلاقي، فالمبلغ غير متوفر بين يديه، ولن يكون سهلا عليه توفير المليونين من دون اللجوء الى اجراءات أو سبل لايحبذها ولايتمناها لنفسه.
سمع قرعا خفيفا على باب المكتب، بعدها تحركت ببطء الى الداخل لتكشف عن ملاحظ القسم، وهو شاب في أواخر العشرينات من عمره، شديد التأدب حتى عندما يتكلم لاتكاد تسمع صوته. وكان يحمل بين يديه سجلا، وابهام كفه اليمنى محشور داخل السجل عند صفحة معينة. تقدم بهدوئه المعتاد وفتح السجل على المكتب أمام مديره. قال موضحا:
- استاذ، هذه الشهادة صادرة عن ثانوية الغدير المسائية ومطلوب تصديقها، ولكن...
ويسكت كأنه يريد أن يستجمع ما بقي من الكلمات التي يتوجب عليه أن يقولها. يسأله قاسم:
- ولكن ماذا؟
يحني الملاحظ رقبته مع ميلان قليل ناحية اليمين ويقول:
- ليست لدينا بيانات عن الطالب وهو خريج الدراسة الثانوية للعام الدراسي 1979 - 1980
- لم أفهم عليك. هل تعني جميع البيانات الخاصة بالمدرسة أم ماذا؟
قال الملاحظ وهو يهز رأسه يمينا ويسارا:
- لا، لا..لا أعني هذا. بيانات المدرسة كلها موجودة لدينا، ولكن...
ويسكت مرة أخرى، كما لو أن عطبا ما أصاب أسلاك التوصيل التي تربط بين رأسه وشفتيه. عاد قاسم يسأله من جديد:
- ماذا تريد أن تقول؟
انتصب الملاحظ بقامته بعد أن كان منحنيا، ورفع ذراعيه قليلا في الهواء، بينما بقيت عيناه مسمرتان على السجل. قال:
_ هذا الطالب ليس له وجود...
تراجع قاسم في كرسيه وقال مستفهما:
- تقصد مزورة..؟
- لا أدري...ربما...
- أطلب لي مدير المدرسة.. خليه يجي لعندي...
لم ينس قاسم مشكلته، لكنه تشبث بالمشكلة الطارئة كي يتناسى أكثر مما ينسى ولو لبعض الوقت.
لكن المدير لم يحضر على وجه السرعة. قال له الملاحظ:
- يقول بأنه خارج المدينة الان، وأكد لي بأنه سوف يتصل بك حالما يتمكن من ذلك.
ولم يتأخر مدير ثانوية الغدير المسائية من الاتصال بالسيد قاسم. كان مباشرا ودقيقا في كلماته:
- أكدر أشوفك برة الدائرة اليوم استاذ قاسم؟ اذا ما تحب تزورني بالمدرسة، أكو مقهى قريب ممكن نلتقي هناك. خلينا على الأقل نعزمك على استكان شاي أو فنجان قهوة...
الكائن البشري أو الـ(Homo Sapiens ) كما يطلق عليه علماء الانثروبولوجيا، صياد بالفطرة، ويمتلك في موروثه الجيني خصائل التربص والانقضاض على فريسته، أما قاسم فعلى العكس من كل أسلاقه الذين عاصروا نبوخذ نصر وآشور بانيبال وكورش الفارسي والاسكندر المقدوني، مجبول على الطيبة والنية الصافية والروح السمحة، لايعرف الحقد طريقا الى دواخله، رغم أن عددا من الحكماء يذهبون الى القول بأن الحقد قد يكون مقدسا في كثير من الأحيان.
ورضي قاسم أن يلتقي مدير المدرسة المسائية في المقهى القريب، رغم أن الموضوع المطروح للمناقشة يقع ضمن الأطر الرسمية البحتة مدفوعا الى ذلك بخشيته من احراج الآخر، وليقينه بأن المسألة برمتها تنطوي على خطأ فادح.
لم تكن في نيته المبادرة الى الكلام رغم أن الموقف يتطلب منه ذلك، فانشغل بتقليب الشاي بالملعقة رغم ادراكه بأنه لايوجد سكر غير مذاب.
وفوجئ قاسم بالمدير يسأله عن ابنه عبد الكريم؟
- اسمعت المحروس طالع اسمه بقائمة الاحتياط
توقفت الحركة في أطرافه، وعقدت الدهشة لسانه فلم يتكلم...
لكن التساؤل كان واضحا في عينيه وهو يحدق في وجه صاحبه. أضاف المدير بنبرة أقرب الى الهمس وأصابع كفه اليمنى المستقرة على الطاولة تفتح فجوات واسعة بينها.
- مستقبل ابنك أهم من كل فلوس الدنيا...أستاذ قاسم...
كان يريد أن يسأل مستوضحا لكن لسانه ظل مشلولا عاجزا عن الكلام. استرسل المدير في حديثه. قال:
- أنا أعرف ناس بامكانهم ان ينقلوا اسم عبد الكريم من قائمة الاحتياط الى قائمة المقبولين
قال قاسم أخيرا وهو يسحب نفسا عميقا في محاولة منه لكبت توتره:
- بس لازم أدفع مليونين
- اعتبر المليونين اندفعن...
وجد نفسه فجأة في مواجهة الحقيقة التي حاول بكل السبل أن يسترها بمختلف أنواع الأقنعة...لكنها تكشفت أمامه عارية ومتبسمة. تعثر الصوت في فمه وهو يقول متسائلا:
- وكل هذا بالتأكيد مقابل تصديق الوثيقة...؟
- أخي أبو كروومي، خليني بس أكول لك شغلة وحدة. يعني كل اللي عندهم شهادات عباقرة ويستاهلون شهاداتهم؟ أكيد لا.....
توقف فجأة ليتلفت حوله كأن عيونا خفية تراقبه، أكمل بعدها بذات النبرة الهامسة.
- واللي ما عندهم شهادات برأيك، فاشلين وأغبياء وميستاهلون؟
ظل السؤالان معلقين في الهواء بين الاثنين يتنفسان من قلقهما ويتمددان في استرخاء خانق. كان قاسم عبر تلك اللحظة المتوقفة فاقدا لبصيرته، عاجزا عن الاسترسال في تفكيره أو التوقف عند حل نهائي حاسم...
رفع المدير ذراعه مشيرا الى الأسطة كي يجلب لهما مزيدا من الشاي والماء البارد. قال أخيرا بعد أن طال الصمت بينهما:
- عيني أبو كروومي، ما أعتقد المسألة تحتاج كل هذا التفكير.
نظر قاسم في وجه صاحبه بعينين كسيرتين وحزينتين، ثم قال بصوت متكسر:
- يصير خير.....
وكان ذلك بالنسبة للمدير بمثابة اعلان بالموافقة. نهض في نصف وقفة منحنيا فوق الطاولة ومد ذراعيه نحو كتفي قاسم وقال:
- خلي كروومي يروح بكرى للكلية حتى يكمل أوراق قبوله...
عدا طنين تلك الكلمات كانت رأسه خالية من أي ردود فعل أخرى، وغادر المقهى وهو على هذه الحال...
في البيت لم يتكلم ولم يعلق وتمسك بصمته باستثناء الجملة الوحيدة التي قالها لولده بحضور أمه.
- باجر راح يطلعون قائمة مقبولين جديدة. أريدك تروح للكلية بكرى الصبح وتتأكد اذا كان اسمك موجود فيها..
وفي اليوم التالي وبعد أن علم من ابنه بأن اسمه موجود في قائمة المقبولين مع ملاحظة تقول: ظهر سهوا في قائمة الاحتياط، نادى قاسم على ملاحظ القسم وأبلغه بتصديق الشهادة الصادرة من ثانوية الغدير المسائية لأن المعلومات الواردة فيها صحيحة وأن الأسم ساقط سهوا من القائمة المتوفرة لديهم.
عندما شاع الخبر بين زملائه تجمعوا حوله وقدموا له التهاني وطالبوه في نفس الوقت بالخروفين. تفحص وجوههم المغلفة بقشور سعادة زائفة. أطلق سعالا مصطنعا، ثم قال:
- وعد الحر الدين، بس أريدكم تمهلوني الى راس الشهر.
كما سارعت أم كروومي الى الايفاء بنذرها وقامت على الفور بتوزيع خبز العباس على جيران الحي..
كان فرحا صادقا ينبع من جذور القلب غمر الجميع ممن يعرف قاسم وزوجته وابنهما ويرتبط بواحد منهم بنوع من القرابة أو الصداقة، فعبرت الأم عن فرحتها بالبكاء، وتدحرجت دمعتان من عيني الأب الذي أخفى عواطفه خلف ستارة صمته، بينما تصدت بعض نساء الحي الى اطلاق الزغاريد الملعلعة، وتمنت وحلمت في نفس الوقت أكثر من صبية من صبايا الحي ومن الأقارب وبعد أن يتخرج عبد الكريم و(يشد النجمة على اجتافه) أن يتزوج من البنت التي (يستاهلهه وتستاهله)...
رغم كل ذلك ظل شيء من الغصة معلقا في صدر قاسم الذي انطوى على سره الدفين، مكتفيا بإيماءات من رأسه مع بضع كلمات لاتتعدى الحدود وابتسامات مجردة من معانيها..
وتدريجيا
سحبته تقلبات الحياة عبر منعطفاتها الجارفة لينتهي به المطاف غارقا في إيقاعاتها اليومية الرتيبة بدءا من ساعات الدوام الرسمي المليئة بالمراجعين والمقابلات والاجتماعات والمشادات والمجادلات أحيانا، تأتي بعدها فترة الغداء والقيلولة، ثم الجلوس على المقهى عصرا مع بعض الاصدقاء أحيانا ووحيدا في أغلب الأحيان يتأمل المارة ويتساءل عن أحلام وهموم كل واحد منهم، ليعود الى البيت مع ساعات المساء الأولى، يتناول العشاء ويقتنص فرصة الكهرباء الوطنية ان كانت كريمة معهم كي يشاهد فيلما أو جزء من فيلم أو ما بستطيع مشاهدته من برنامج ما. ويختتم يومه بقراءة بضع صفحات من أحد كتبه القديمة قبل أن يستسلم لسلطان النوم.
في يوم من تلك الأيام العراقية التي يختلط فيها القديم بالحديث، والموروث بالدخيل، غادر قاسم البيت في طريقه الى عمله في المديرية العامة لتربية بابل والتي لحسن حظه لاتبعد أكثر من بضع دقائق مشيا على الأقدام مما يوفر عليه مشقة استخدام سيارته في شوارع ضيقة مليئة بالحفر وتكتظ بشتى أنواع السيارات التي تتحرك في كل الاتجاهات دون أن يحكمها قانون أو نظام.
في صباح ذلك اليوم الغريب المشبع بالغبار المتطاير من تحت عجلات السيارات، أو القادم من الاراضي الزراعية المتصحرة، فيعانق وجوه العراقيين كي تزداد كلحا وعبوسا وحزنا وتشاؤما، كان قاسم يتلفت حوله دون أن يحاول الابتعاد عن ظاهر الاشياء كي لايتوجع وكي لايرى بشاعة ما يجري حوله. في تلك اللحظة بالذات وقع بصره على اعلان كبير يتصدر جدارية تنتصب على جانب الطريق. توقف أمام الاعلان متفحصا صورة الرجل فيه، ولم يكن وجهه غريبا عليه. وقرأ اسمه. الاسم أيضا له صدى ما في ذاكرته. أما الكلمات التي كتبت في الاعلان فتقول:
(انتخبوا هذا الرجل ولن يخيب ظنكم. انتخبوه وائتمنوه على كل احلامكم فهو سبيلكم الوحيد الى مستقبل أفضل.)
من يكون هذا الرجل؟
رفع قاسم كفه فوق رأسه حاجبا عن عينيه ضوء الشمس كي يطيل النظر في الوجه الذي تعلوه ابتسامة ماكرة.
عاد يسأل نفسه: من يكون، ولماذا هو ليس غريبا عليه؟
ولم يطل تحديقه في وجه المرشح، إذ بدأ شيء ما يتحرك في ذاكرته الخاملة. نعم، انه هو، صاحب الوثيقة المزيفة..
أجل، انه هو..
صاحب الوثيقة المزيفة...
تلفت قاسم حوله وقد تكورت في صدره صرخة ولعنة ووابل من الشتائم..
لكنه...
لم يجرؤ أن يتفوه بشيء....