الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فقد ذكرَ العلامة الحافظ ابن القيم في ((الزاد))، وتَبِعَهُ ولربما نقل منه وعنه الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((الفتح)) أنَّ مراتبَ صيام يوم عاشوراء ثلاثٌ، هي:معلومٌ أنَّه لا يثبت حكم في دين الله إلا بنص، وبنصٍّ ثابت صحيح، إمَّا من كتاب الله تبارك وتعالى، وإمَّا من صحيح سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد ثبت في الحديث الصحيح فضل صيام يوم عاشوراء، وثبت أيضًا في الحديث الثابت الصحيح فضل صيام يوم التاسع من المحرم.
كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (لئن عشتُ إلى قابلٍ لأصومن التاسع)، وفي رواية عنه فيما هو دون الصحيح - وإنْ كان صحيحًا -: (لأصومن التاسع والعاشر).
إذن؛ فهاتان المرتبتان قد ثبتتا بالدليل الصحيح؛ فعلى العين والرأس.
وأمَّا الثالثة هذه فمن أين؟!
من أين أنَّ أعلى المراتب أن يصوم العبدُ المسلم التاسع والعاشر والحادي عشر؟!
أمَّا الحديث الذي وردَ عند الإمام أحمد وعند البيهقي أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبرَ أنَّه ينبغي للعبد أن يصوم يومًا قبله ويومًا بعده - يعني: قبل العاشر فيصوم التاسع -، وبعدَهُ - هكذا من غير تردد ولا شك ولا تخيير على حسب ما تُوضَعُ (أو) له في اللغة ولغيره أيضًا - أنْ يصوم يوما قبله ويوما بعده؛ فيصوم التاسع والحادي عشر.
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما رُوِيَ عند البيهقي على الشك: (يومًا قبله أو يومًا بعده), فهنا يقع في النفس شيء، وشيء آخر: أنَّه قد اختُلف على من أخرجه فيه، فاختُلف في روايةِ عبد الرزاق, وكذلك في رواية حفص، وكذلك ورد مُختَلَفًا فيه عنه في هذه الرواية التي مَرَّت، فهذا الحديث حديث ضعيف لا يثبت, ويتبقى عندنا ما رواه ابن عباس نفسُه, وهو يُضَعِّف الرواية التي مرَّت، إذ وردت الرواية ثابتة صحيحة: (لأصومن التاسع) يعني: مع العاشر, أو مُصرّحًا بها في غير الصحيح صحيحةً: (لأصومن التاسع والعاشر).
وأمَّا (بَعدَهُ) (أو بَعدَهُ) فلم يرد فيها نص يصح، وما قِيل إنَّه قد ورد عن ابن عباس مُصَرَّحًا به في صيام الثلاثة الأيام, وذلك عند ابن جرير الطبري في ((الآثار)) فإنَّ ذلك فيه هذا الاختلاف الذي ذكرتُ لك، فهو حديث ضعيف لا يَثبُت، ويبقى الصحيح على حاله.
ولكن المرتبتان قد ثبتتا في صوم العاشر، وفي صوم التاسع مع العاشر، ثبت ذلك صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والحادي عشر ما شأنه؟!
يقول أهل العلم: إنَّ من المستحب أن يصومه العبد؛ لأنه لربما ثبتَ الشهرُ بالشك من غير ثبوت رؤية، وحينئذ لو أنَّ ذلك كان كذلك لضاعَ العاشر أو ضاع التاسع في وسط هذا الاختلاف، فكان الاحتياط من أجل إصابةِ اليوم العاشر على وجهه أنْ يأتي بصيام اليوم الحادي عشر.
أمَّا أن يثبت نص في ذلك؛ فلم يثبت، ولكن احتياطًا أن يصوم المرءُ مع التاسع والعاشر الحادي عشر؛ لأنَّه ربما ثبتت رؤيةُ الشهر شكًّا من غير ما ثبوت برؤية، وحينئذ لوقع في هذا الشكِ شكٌ, ووقع في هذا الشكِ لا شكٌ وإنما يقينٌ, فكان الشك في محله لمَّا صام المرءُ كما أرادَ له النبيُّ أن يصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحينئذ فيعود الأمر إلى ما كان وما قِيل قبلُ وأنَّه يُستحب أنْ يصوم مع التاسع والعاشر الحادي عشر؛ من أجل أنْ يكون على الجادة مُحتاطًا لنفسه من غير أنْ يكون ذلك مسنونًا له بسُنَّةٍ ثابتةٍ, ولا مفروضًا عليه من بابٍ أَولَى.
والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دلَّ على فضل صيام يوم العاشر, وقال العلماء أحمد وأبو حنيفة رحمهما الله تبارك وتعالى رحمة واسعة: يُكره أن يصوم العاشرَ وحدَه.
وفي قول عند الحنابلة في مذهبهم - ولعله رواية عن أحمد -، وهو اختيار شيخ الإسلام: أنَّ ذلك لا يُكره. فلو صام العاشر وحده فلا كراهة.
والاختلاف في هذا الأمر ما مَبعَثُه؟
مبعثه قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما ذُكِرَ له صيام اليهود ليوم عاشوراء قال: (لئن عشتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع).
يريدُ المخالفة صلى الله عليه وعلى آله وسلم, فهذا مبعثُ ذلك.
ولكن هل يُقال: إنَّ من صام العاشر وحدَه يكون قد أتى بشيء مكروه؟
بمعنى أنَّه لو خُيِّرَ بين أن يصوم ولا يصوم, فيقول له الرجل من أهل العلم ممن يقول بهذا القول: لا تَصُم لأنَّه مكروه لك أنْ تصوم أم أن ذلك على خلاف الأولى لو وقع؟
هو على خلاف الأولى يا أخي، وهو اختيار شيخ الإسلام، ورواية عن أحمد, وهو مذهبه ومذهب جماهير أهل العلم: أنَّه لو صام العاشر وحدَه لم يكن ذلك مكروهًا له على اللفظ الاصطلاحي بمعناه، وإنما الكراهةُ هاهنا هي خلاف الأَولى، وحينئذ تنتظم عندنا أقوال أهل العلم بجماهيرهم رحمة الله عليهم أجمعين.
فعلينا عباد الله أن نُعَظِّمَ شعائرَ اللهِ، وأنْ نكونَ فيها مُتَسَنِّنِينَ بِسُنَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
مقتبس من خطبة للشيخ محمد سعيد رسلان حفظه الله