يا سادتي
أرجو المعذرة. سأروي لكم حكاية سعد.
سعد لم يكن شخصا عاديا . كان حالة نادرة ولكنها قد تتكرر في كل زمان ومكان. وربما كان سعد يعيش الآن بيننا، وربما أنه يجلس بيننا دون أن ندري. سعد شخص مثل كل الناس.ولكنه يختلف عن كل الناس. فهو لم يكره في حياته أحدا، ولكنه أيضا لم يغرم باحد. فقد كان الناس عنده سواء. لم يحزن لموت قريب لانه لم يكن له قريب، ولم يفرح لمصيبة عدو لأنه لم يكن له أعداء.
لم يعرف أحد اسم والده، لأن أحدا لم ير هذا الوالد. حتى سعد نفسه لم يكن يعرف اسم والده لانه لم يره. فقد جاءت به والدته الى البلدة وهو لا يزال طفلا رضيعا وسكنت به عند عائلة " الشرقي" . وبعد عام وقبل أن تستقيم خطواته المتعثره، وقبل أن ينطق حتى كلمة ماما ، ماتت أمه. فاشفقت عليه امرأة من عائلة
" الغربي" وأخذته لترضعه مع أولادها. وفي عامه الثاني ، توفيت مرضعته. فكفلته امرأة من أخرى من عائلة "الشمالي" حتى اصبح عمره خمس سنوات، فماتت هي الاخرى، وكأن الموت يرافق سعدا ويمشي معه. واستقر به الامر عند عائلة"الجنوبي".
وهكذا فقد شاركت جميع عائلات البلدة في رعاية سعد والعناية به. ولكنه أبدا لم يحمل اسم أي من عائلاتها. وهكذا عاش سعد شرقيا عند الشرقيين وغربيا عند الغربيين. وان ذهب الى الشمال فهو شمالي وجنوبي عند الجنوبيين . لم يكن سعد يحمل اسم عائلة في البلدة، ولكنه كان يحمل اسم البلدة بأكملها.
كبر سعد. تماما كما تكبر أي بهيمة أو شجرةفي البلدة . عاش الحياة رغما عنه وعنها. عاش دون أن يدري كيف عاش. كان بسيطا في كل شيء. بسيطا في أحلامه وآماله وبسيطا في تفكيره. ولكنه لم يكن غبيا لانه كان يقوم بكل الذي يطلب منه بشكل تام. ولم يكن ذكيا لانه لم يبادر يوما لعمل شيء من تلقاء نفسه. ولم يكن سلبيا، لانه كان يشارك في كل مناسبات البلدة وأعمالها. كان همه في الحياة أن يعيش، ولم يكن محروما فهو ابن البلدة كلها.
مرت عليه الاعياد والمناسبات فلم يفرح ولم يحزن. رأى الناس يزفون على عرائسهم فلم يفكر في الزواج يوما لانه لم يكن يعرف معنى الزواج. ولم يكن هناك من يفكر في تزويجه ابنته. ولم تكن هناك من ترغب في الزواج منه. فرغم أنه لم يكن مكروها في البلدة، فانه لم يكن ليصبح الزوج الذي تطمح اليه أي فتاة.
ورأى رجالا يحملون على أكتاف الاخرين فلم يحزن ولم يسأل نفسه اين يذهب الناس ويختفون، فقد كان الموت بالنسبة اليه لغزا . وربما شاهد الموتى يدفنون ولكنه لم يحاول أن يسأل أو يعرف لماذا يحدث ذلك.
عاش سعد في البلدة حتى اصبح جزءا منها ، فهو لم يغادرها أبدا ولم يتعد حدودها. فقد كان مغروسا فيها وكأنه شجرة تنمو ولكنها لا تغادر محيطها. وكان عالمه ينتهي عند حدود البلدة ولا يتعداها.
وفي يوم من الايام أعطاه رجل ورقة يانصيب. ولأن سعدا لم يكن يدرك اهميتها فقد دسها في جيبه دون اهتمام. وبعد شهر تم السحب وفازت ورقة سعد بالجائزة الكبرى. وسرى النبأ في البلدة بأكملها. كل الناس عرفو أن سعدا قد فاز بالجائزة الكبرى ، الا سعدا. فقد كان الرجل الذي أعطاه الورقة قد سجل رقمها عنده لانه يعرف أن سعدا لا يعرف القراءة.
بحث الناس عن سعد فوجدوه ينام تحت ظل شجرة وقد افترش الارض وتلحف السماء كما هي عادته وتحت رأسه حجر هو وسادته. هجم الناس على سعد وايقظوه من منامه. سعد المسكين لم يعرف لماذا تم ايقاظه. لم يرتعب ولم يخف ولكنه تعجب. وراح الناس يفتشون عن الورقة في جيوبه حتى عثروا عليها.
تشاجر الناس في شأن الورقة وكل يدعي ملكيتها وانها تخصه هو دون غيره. لا أحد تذكر أن سعدا هو صاحب الورقة. وانقسمت البلدة. وادعى الشرقيون أن سعدا شرقيا لان والدته سكنت عند الشرقيين . وادعى الغربيون أن سعدا غربيا لانه رضع من احدى نسائهم. وقال الشماليون أن سعدا شمالي لانه عاش في كنف احدى نسائهم في صباه. وقال الجنوبيون أنه جنوبي لانه قضى شبابه بين الجنوبيين.
أخيرا قرر الجميع أن سعدا لاينتمي لأحد في البلدة بل هو وقف من أوقافها. وبالتالي فهو ملك للجميع ولهم الحق فيه وفي ورقته. وعليه فان للجميع الحق في الجائزة الا سعدا. ولكن الجائزة لا يصرفها الا سعدا. وسعد المسكين لا يحمل أي وثيقة تثبت شخصيته. وليس هناك من فكر يوما أن على سعد أن يحمل وثيقة تثبت شخصيته.
وفي يوم عاصف ماطر انطلق الناس ومعهم سعد الى البنك. سار سعد وعن يمينه رجل من الشرقيين وعن يساره رجل من الغربيين. وأمامه يسير رجل شمالي وخلفه آخر جنوبي.سعد المسكين لم يعرف لماذا هذا الحرس ولا الى أين هو ذاهب.وفي نهاية المطاف، وصل الجميع الى أمام البنك. وخلفهم تجمهر أناس كثيرون من كل أركان البلدة والجميع صامتون.
كان لا بد أن يقوم شخص ما من هذا الجمهور الكبير بتقديم الورقة الفائزة الى البنك وقبضالجائزة. أي واحد من هذا الجمهور الا سعدا لأن سعدا لا يحمل أي هوية.
تكلم الجميع ولم يتفقوا واختلفوا وعلت أصواتهم والريح تزمجر حولهم ، وقد بدأت الامطار بالهطول بغزارة، وسعد المسكين لا يدري لماذا يحدث هذا من حوله. وفجأة هجم أحدهم على سعد وانتزع منه الورق وركض بها نحو البنك، فتدافع
الباقون خلفه وأمسكوه وانتزعوا منه الورقة، وسقطت بين الاقدام. وهبت نسمة ريح قوية حملت الورقة الى أعلى، فركض الجميع خلفها.
مرت سيارة مسرعة تحمل بعض الابقار، فأسقطت الريح الورقة داخلها. ركض الناس خلف السيارة وهم يصرخون وأوقفوها وبحثوا عن الورقة، فوجدوها واحدى الابقار تلوكها بين أسنانها وقد أوشكت على ابتلاعها . حاولوا استخلاص الورقة من البقرة العنيدة ولكنها أبت أن تتخلى عن هذه الوجبة الطائرة.
نظر أهل القرية الى بعضهم البعض ثم تحولت انظارهم الساخطة نحو سعد وتفرقوا من حوله. سار الشرقيون شرقا والغربيون غربا. واتجه الشماليون نحو الشمال والجنوبيون نحو الجنوب. وبقي سعد وحده أمام البنك ينظر نحو الجموع المتفرقة دون أن يفهم شيئا. فحمل نفسه وسار يبحث عن شجرة يفترش تحتها الارض ويلتحف السماء ويتوسد الحجارة