شؤون ثقافية "الجزائر الجميلة والأكثر مرحاً تحت هذه السماء الإفريقية"لو كان الكاتب الألماني ألفريد كير على قيد الحياة لشارك الجزائريين
احتفالهم بالذكرى الخمسين لاستقلال بلدهم من المستعمر الفرنسي، فكير ذو
الأصول اليهودية كان مغرماً ببلد المليون شهيد التي طالما زارها وتغزل بها
في كتاباته.
لم يكن الأدب بعيداً عن نضالات الشعوب ودائماً ما كان يحفز هذه الشعوب على
الوقوف بوجه الطغاة والمستعمرين ولكن الغرابة هنا أن يكون مثل هذا الأدب
مكتوباً من قبل أحد أبناء الدول التي كانت تستعمر بلاد الغير. مثال على ذلك
الكاتب الألماني ألفريد كير الذي زار الجزائر مرات عديدة وقدم إلى الشعب
الجزائري كتابه الشهير الذي يحمل عنوان طريفاً „Die allgier trieb nach Algier“وتعني
"كل الفضول دفعني إلى الجزائر". وهو عبارة عن كتاب في أدب الرحلة ولكنه
كُتب شعراً منثوراً وهذا ما جعله إلى جانب أن مؤلفه كان كاتباً ألمانياً
يهودي العقيدة يدافع عن حقوق الجزائريين المسلمين، كتاباً فريداً من نوعه.
والجدير بالذكر أن كتاب ألفريد كير عن الجزائر منع من المداولة في ألمانيا
في الحقبة النازية ورغم ذلك وزعت منه آنذاك الطبعة السادسة على التوالي.
الشاعر الرحالة#b#وقد كان كير ذا فضول دائم للتعرف على الناس من
الثقافات الأخرى في العالم وعلى نمط حياتهم، فجال منذ أواخر القرن التاسع
عشر في كثير من البلدان، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، إسبانيا، فرنسا،
إنكلترا، وكان الشمال الإفريقي الذي أحبه وعبر في كتاباته عن شغفه به
وبعوالمه المختلفة محط قدميه عدة مرات، فإلى جانب الجزائر زار كير المغرب
وتونس ومصر وهو القائل:
"... في بلاد النخيل / بفصل الربيع / في الجزائر / حطّ بيّ الرحيل ..."لغة كير الحادة الدقيقة، وقدرته على ابتكار مصطلحات لغوية جديدة، وكذلك
سخريته اللاذعة في نقده ومحاربته الأفكار النازية منذ مطلعها في ألمانيا،
سمات بوأته مركزاً مهماً في الحياة الأدبية والصحافية في ألمانيا وخارجها،
حيث أصبح في أوروبا من مشاهير النقاد المسرحيين آنذاك إلى جانب عمله كصحافي
وشاعر قدير.
المعاناة المشتركة تولّد التضامن الكاتب والرحالة الألماني ألفريد كير
ولكون هذا الشاعر الألماني الذي ولد عام 1867
وتوفي عام 1948 ينتمي إلى عائلة يهودية، فقد عانى الكثير من ضيم الحكم
النازي وعرف في حياته معنى الاستبداد والقهر والتشرد ولذلك كان مناهضاً
شرساً لكل أنواع الاستعمار والعنصرية والاستبداد. ففي نص رحلته الجزائرية
تبرز مشاهد وصور كثيرة تفضح جور الفرنسيين المحتلين وحكمهم الطاغي بحق
الجزائريين. وفي بعض المقاطع طالب ألفريد كير العالم كله وخاصة فرنسا
وإنجلترا بأخذ العبرة من الامبراطوريات التي كانت محاربة وطاغية ومن ثم
انتهت وتحولت إلى شعوب مسالمة:
"... أهل الجزائر كانوا حتى مئة عام
مضت قراصنة شديدي القسوة / والآن هم مستعمَرون، لقد تغيروا مثل غيرهم من
الشعوب الأخرى / أين هم الفينيقيون العظماء، لطفاءُ همُ الآن / الشعب
السويدي كان قديماً من أشد المحاربين واليوم ها هو هادئ خلوق مثقف / وفي
غضون مئة عام أصبحنا نحن شعب البروسيا شعباً لطيفاً، وصادقاً محبّاً ..." ويختم المقطع بثلاثة كلمات
: "... العالم مثل الأرجوحة."وفي مقطع آخر يقول كير مخاطباً الجزائريين ويدفع بهم روح الصبر ويحثهم على الاستمرار في ثورتهم: "...
فما من شيء يبقى / وخاصة حكم الأشرار / فما من شيء يبقى / وخاصة الكره والحرب والاستعمار."
العربي ليس جاهلاً كير الألماني اليهودي عانى من الاضطهاد ولذلك كان يناهض كل أنواع الاستعمار والعنصرية
وتكشف الرحلة عن وعي إنساني رفيع بفكرة الحق البشري، وعدم
أخلاقية الاستبداد ويضرب الأمثلة على قدرة البشر على الانتصار للحق
الإنساني ضد أعداء الإنسانية، وبالتالي يكشف عن شغفه بالحرية وفرحه بها على
أنها حقاً مقدساً لكل الناس بصرف النظر عن عقائدهم وأديانهم وانتماءاتهم
الإثنية والحضارية، ولا يقبل بالأعذار والمسوغات التي تستغبي الناس
لتستعمرهم. حيث يقول في إحدى المقاطع: "...
العربي ليس جاهلاً"
..." وينوه إلى أن الأمل في الخلاص من الاستعمار يجب أن يكون حاضراً على
الدوام، بل إنه ينبه إلى أن الثورة على المستعمر تأتي من حيث لا يحتسب،
ويستشهد في نصه بشاعر مغمور: "...
أيا أيتها البلاد المستَعمِرة / في البدء تكون شعوب مستعمَراتكم عبيدا لكم / وفي النهاية أسياد عليكم ..."
"الجزائر الجميلة المرحة" طالما جذبت كير لزيارتهاأراد من زيارته الأخيرة إلى الجزائر، والتي وضع على إثرها قصائده، أن يرى
ما إذا كان شيئاً قد تغير هناك، ففي نصه مقارنة بالمرات السابقة، عندما كان
يحط به الرحال على شواطئ شمال إفريقيا قبل الحرب العالمية الأولى. زياراته
كانت ربيعية إلى المغرب، والجزائر، وتونس، ومصر متجهاً إلى البلاد
الأفريقية التي طالما وصفها بالبلاد المقدسة.
"... إلى الجزائر دفعني الولع والفضول مرة أخرى / الجزائر الجميلة / الأكثر مرحاً مِن غيرها تحت هذه السماء الإفريقية ..." الفرنسيون والجزائريون عام 1945
تحفل الرحلة بصور الفرح وبالطبيعة الجميلة والناس البسطاء، وتشد
القارئ ليعرف أكثر وأكثر عن الأمكنة التي زارها ويصرح بأن نفسه لا تعرف
سكينة أو هدوءاً قبل أن تصل إلى تلك المناطق الجبلية الرائعة التي يسكنها
البربر. ونراه في سطور شعره يتجول من قرية إلى أخرى، يصف جمال الطبيعة
هناك، الورود وشجر التين الكثيف، والبيوت بنية اللون كأنها تمتطي رؤوس
الهضاب:
"... بلادكم مليئة بالورود الجميلة / كثيفة طويلة / تلمع كالقصل / ... وهذه ليست بساتين خضراء / لكنها مروج ملونة..." ويضيف:
"... المساء في بلاد البربر / مليء بالأريج / والصباح مليء بالغبطة والسعادة ..."