بصمت مهيب جدا، جلست في مقهى يحمل اسما غريبا يعكس غربتها، والذي يضج
بالحياة، تتأمل فنجان قهوتها المرة و الباردة و التي استقر في قعرها خليط
غير متمازج من المشاعر المتضاربة، فتذكرت تلك الجملة التي قرأتها في رواية
لا أذكر صاحبها ولا حتى اسمها، هل من المحتم علينا أن نبلغ من الحب أعمق
درجاته كي نفهم حقائق من نحب؟، لقد استطاعت رابحة أن تلفت انتباهي بفنية
كبيرة و أن تجعلني اتسائل بألم دفين غير معتاد دون أن أجد أجوبة شافية.
جلست أراقبها بشيء من الحذر، خوفا من إدراكها فتضيع عفويتها، حزن بارد قاس
سكن عقلها وافترس أعماقها لدرجة أنه سري إلى عروقي كأنه مرض عضال ينتقل
بسرعة البرق، شعور لا خلاص ولا شفاء منه، ضجيج أطفال يدمر هدوئها وينهش
بقايا إرادتها، تكتشف وجودي، أحاول التحايل عليها وإقناعها باني جئت للتو
فلا أحقق إلا مزيدا من الألم، يتضاعف ذلك الحزن وتتكاثف غيومه في عيونها،
أستشيط غضبا وألعن الساعة التي جعلتني أتطفل على هدوئها، اعتراني حزن كبير
وشعرت بأنني أتعملق وأمتد إلى كل الجهات في لحظات قليلة، ثم صرخت بكل طاقات
صوتي أن الحياة قد تصلح بطريقة ما ما تفسده الأيام، تأكدي من أنك ستلتقين
بمن فقدتهم ثانية، ولكن في ظروف أخرى، ليست لدي فكرة عنها الآن لكنني على
يقين من حذوت ذلك، قاطعتني وهي تخلع نضارتها ماسحة وجهها بمنديل ورقي
مخاطبة إياي بدون مقدمات، “تخطوا قدماي كل يوم في اتجاه غير معلوم، أجد
نفسي في موعد مؤجل مع المجهول، أمشي وانظر إلى ساعتي مرارا وتكرارا، ودونما
إحساس أجد نفسي قد حطمت رقما قياسيا في النظر إلى الساعة، أحيانا اسأل
المارين للتأكد من الوقت بعد أن دقت ذرعا من الانتظار، أخرج هاتفي من جيبي
بأنامل مرتعشة للتأكد من انه لم تصل رسالة دون أن انتبه لها، علما بان
عيناي لا تفارقان شاشته، أنتظر ما يمكن أن يغير مسار الحياة مع إشراقه شمس
نهار جديد بدون جدوى، أتصل يرن ثم يرن ويرن، ويضل يرن لا شيء غير ال Boite
Vocale. تستفزني كلمات تلك المرأة التي تقوم بدورها على أتم وجه وتحصد
أرباحا طائلة لشركات الاتصال، أجلس بعيدا وأراقب، أجل أراقب أناسا يشبهونني
، أناسا يقفون في أماكن مختلفة ويترقبون لحظات مختلفة، ينظرون إلى ساعتهم
ثم هاتفهم ثم يسألون المارة، يتكرر المشهد الذي أعيشه أمام عيني ألاف
المرات، أصيح ملئ فمي : متعبة أنا…مرهقة أنا والطريق يبدو طويلا “، جرس
الهاتف يقطع خطابها تنهض متثاقلة وتتجه إلى الخارج دقائق قليلة ثم تعود
بعدها إلى كرسيها، لم أسألها عن الشخص الذي هاتفها، أخدت نفسا عميقا وأعلنت
تساؤلي بعد مدة صمت قصيرة، ألن تنهي عذابك وتخبريني ما بالك؟، تصيح انه
المطر إنه المطر.
تنفلت إلى وسط الشارع فاتحة ذراعيها مسلمة نفسها إلى القطرات كما تسلم
العروس الحسناء نفسها لعريسها في ليلتهما الأولى، القطرات تهمي عليها بلا
انقطاع في حين ترقص هي على إيقاعها رقصة أمازيغية تختلط فيها حركات
الساعدين بالقدمين وتمتزج فيها البسمة باغماضة العينين، رقصة تتشابك فيها
الأصابع معلنة عن تماسك وتمسك بأفكارها ومبادئها، مهما بدت للآخرين سخيفة،
تناثرت خصلات شعرها الطويل والتصق الفستان الأبيض على جسدها المثير التصاقا
أبان كل مفاتنه وتضاريسه لتي طالما أخفتها، في تلك اللحظات الغارقة ما بين
جنونها و قلقي وتساؤلاتي المضنية تقدمت نحوها محاولة الاقتراب منها رويدا
رويدا، ثم وضعت يدي على كتفيها وهمست بصوت كالفحيح: “إلى متى هذا الطيش و
الجنون”؟، أزحت بعضا من خصلات شعرها الغزير عن جبينها وعينيها فبدأ وجهها
متعبا ومتجهما لكنه لم يفقد سحره الكبير، تمتمت بعد أن ركزت نظراتها على
وجهي بأسى إنني أصارع وأتحايل على نفسي كي انسي لكني لا انسي لا انسي لا
انسي…قاطعتها ”لا تيئسي هناك دائما أمل أو فرصة وإلا لأصبح كل شيء بتفاهة
بعوضة”، ران هدوء موبوء على الجو، صمت يطلق الموت خلاله ضحكات ساخرة لا
نهاية لها، تفجرت براكين ألمها وانهمرت دموع رسمت جداول على خدودها التي
أغار من توردها الدائم، موعد حضور أمها يقترب، لحظات فقط ثم توقف سيارة
أمام المقهى، تهبط الأم منها كسحابة الضوء، تحييني بابتسامة رقيقة ثم تقول
لها بصوتها الناعم هل أنت مستعدة؟، أودعهن وقد توقفت في مكاني مسمرة،
وابتعدن رويدا، تتبعت السيارة حتى اختفت عن ناضري ، ودعتهن بثقة العارفة
أني لن أراهن ثانية أبدا تماما كما ودعت اناسا كثر