سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو طفل صغير تعلَّق بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تعلَّق به من كلام أبيه وكلام أمه وكلام إخوته فلابد لنا أن نؤدب أولادنا على حب نبينا لأن هذه الأمور تحتاج إلى التأديب فعندما يروني في هذه الأحوال وينبهروا بي ويُعجبوا بي فسيكونوا معي على المنهج إذاً الأساس كي أجعلهم يسيرون معي أن أوجد أولاً رابطة حُبٍّ بيني وبينهم وابني عندما يُحِبُّني تجده من نفسه يريد أن يكون صورةً مِنِّي من غير كلام مني لكن إذا كان لا يعجبه تصرفاتي ولا يعجبه سلوكي ولا يعجبه أحوالي ولا يعجبه أعمالي فحتي لو قلت له اعمل كذا وكذا لا يعمل وإذا عمل كان ذلك تظاهراً من أجل أن يرضيني لكنه في داخله غير مطمئن لهذا العمل
أما أصحاب رسول الله كيف حبَّبُوا أولادهم في رسول الله؟ بأن جعلوا حياتهم كلها معلَّقة برسول الله فإذا تكلم الرجل مع زوجته فإنه يتكلم عن رسول الله إذا زاروا بعضهم ففي جلساتهم العائلية يكون الكلام أيضا عن رسول الله إذا تكلموا على عمل يتكلمون عنه من منظور الإيمان وكيفية تطبيقه من رسول الله
فسيدنا عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما تعلَّق به بعدما سمع عنه والنَّبِيُّ كان متزوجاً من خالته السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها فقال لها: يا خالتي أنا أريد أن تأذني لي أبيت عندك ليلة من أجل أن أري النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يتعبد لربِّه في الليل كيف يتعبد؟ وتعلق بهذا الأمر وكان سنُّه سبع سنوات وكان بيت خالته لا يوجد فيه غير غرفة واحدة فكل واحدة من زوجات النَّبِيِّ كان لها حجرة واحدة فقط فرقد في ركن فيها وتظاهر بالنوم ليري ماذا يفعل رسول الله حتي يعمل مثله فقام رسول الله وتوضأ وعندما رآه يتوضأ نظر إليه وبعدما توضأ ذهب لنفس المكان الذي توضأ منه رسول الله وتوضأ مثله وعندما وقف يصلي وقف بجواره ولكن كان عن شماله لأنه لا يعرف فأخذه رسول الله عن يمينه وهو في الصلاة وصلَّي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تعلَّق بذاته النورانية في كل أموره فحدثت له الشفافية
ولا يوجد طريق آخر للشفافية غير هذا الطريق[1] فليست بالنظر في الكتب ولا بالسهر والتهجد والحركات والسكنات ولا بالأفعال ولا بالأعمال وإنما بالتشبه بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}والمقصود بالمتابعة هنا أن تكون شاملة كاملة وليست بالمتابعة في الصلاة فقط كأن نتابعه في الصلاة ونترك المتابعة في المعاملات فهذه ليست متابعة صادقة وكذلك لو نتابعه في الظاهر والباطنُ الله أعلم به لكن المتابعة الحقيقية أن نتابعه في السوق كما نتابعه في الصلاة فلابد أن تكون المتابعة كاملة في كل حركاته وسكناته وغدواته ورواحاته بكل جوارحنا فالبصر يتبع بصره والأذن تتابع أذنه وكذلك اليد وكذلك الرجل تكون على قدم فيكون المرء صورةً على قدره من حبيب الله ومصطفاه في وقوفه بين يدي مولاه
فسيدنا عبد الله بن عباس وصل لحالة من الشفافية جعلته دخل يوماً على رسول الله وأصحابه حوله وهو طفل صغير وهم رجال كبار فرأي سيدنا جبريل وهو يتكلم معه فذهب إلى والده وقال له: رأيت رجلاً شديد بياض الثياب شديد بياض الوجه يتحدث مع ابن عمي فأخذه أبوه وذهب لرسول الله وقال له: عبد الله يقول أنه رآك تتحدث مع رجل لا يعلمه فسأله صلى الله عليه وسلم ماذا رأيت؟ فوصف له ما رأي فقال( ذلك جبرائيل أما إنك ستفقد بصرك ) [2] ما الذي جعله يصل إلى هذه الشفافية؟ من شدة استحضاره لجمال أنواره صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم كما قال فيه أحد الصالحين :
فَرُوحِي لَمْ تَغِبْ وَالرُّوحُ نُورٌ تُوَاجِهُ مَنْ أُحِبُّ بِنُورِ نُورِي
فَرُوحُهُ لم تغب من الوجود وربُّنا لفت نظرنا لهذه الغاية النبيلة ووجهنا إليها وقال لنا {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} ساكن داخلكم في القلب لكنكم أنزلتم عليه ستائر الحظ والهوى وجاءت الدنيا بترابها وغبارها فسترته ولم تعودوا ترونه فلذلك لا تعرفون الطريق المستقيم ووقعتم في الحيرة في المنهج الذي تمشون عليه هل تقلدون أمريكا؟ أم ألمانيا؟ أم اليابان؟ لا ندري لأننا سترنا صاحب الصورة الكمالية الذي جعله الله باب سعادتنا في الدنيا وباب فلاحنا وفوزنا يوم الدين
ولن تنتبه أمة الإسلام إلا إذا كان المصطفي في قلوب أهلها على الدوام وكلما يقع الإنسان في ضائقة يستحضر حضرته عندما كانت تَمُرُّ به الفتن والزلازل والضوائق فيكون كما قال صلى الله عليه وسلم (طُوبَىٰ لِلْمُخْلِصِينَ أُولٰئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَىٰ تَنْجَلِي عَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ ظَلْمَاءَ) [3] لماذا؟ لأن استحضار رسول الله يجعل الإنسان دائما متبعاً له والذي يمشي وراءه على الفور يأخذ نصيبه من ميراث حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم إذاً جهاد النفس في إزالة اللبس ثم استحضار الأوصاف المحمدية والكمالات الأحمدية على الدوام وليس معني استحضاره أنني في البداية أستحضر ذاته الشريفة فهذا مقام صعب علينا لكننا على الأقل نستحضر أعماله ونتذكر أقواله فنستحضر كيف كان يمشي؟ وكيف كان يتناول الطعام؟
ولو مشيت على هذا الهدي النبوي فلن أحتاج إلى دعوة أحد بلساني إلى الله لأني سأصير صورة محبوبة كل من يراها يحب صاحبها بأمر الله وكان الكافرون أنفسهم يتعجبون من ذلك وقد قال سيدنا علىٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ ) [4] فالذي لا يحبه مَنْ في نفسه غرض أو مرض لكن الذي يراه على البديهة يحبُّه على الفور صلوات الله وسلامه عليه وعندما توسط عروة بن مسعود الثقفي في الصلح بينه وبين قريش في صلح الحديبية ورأي إخوانه وكيف يتقاتلون على محبته، قال لهم (يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما والله ما رأيت ملكاً قط مثل محمد في أصحابه ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً )[5]
فهل يعقل أن تمشي على منواله ولا يحبُّك أهلك وولدك؟ مستحيل إذاً فما الفصام الذي جاء بيننا وبين أولادنا؟ نحن نسلك على خط وهو سالكون على خط آخر لأننا لسنا على الصورة الجادة نحن نمشي على الهوي ونقول أننا نأخذ الدواء وهذا لا ينفع فالمريض الذي يمشي على هواه ولم ينفذ تعليمات الطبيب هل يشفي؟ لا كذلك الأمر فلا تأمر أولادك ولا تنهاهم إلا بِقَدَرٍ وبرفقٍ وبلين فسيدنا رسول الله كان يداعب أولاده وكان يجعل نفسه للحسن والحسين جملاً ويركبون عليه ويقول أحد أصحابه للحسن والحسين عندما رآهما يمتطيان ظهره صلى الله عليه وسلم (نِعْمَ الجَمَلُ جَمَلُكُمَا) فقال صلى الله عليه وسلم (وَنِعْمَ الرَّاكِبانِ هُمَا) [6]
والأمر يطول إذا أردنا أن نشرح هذه الحقائق في تربية رسول الله لأولاده لكن كل المقصد أن تتعلق القلوب بحضرته فعندما تكون على صورة حبيب الله ومصطفاه كل الذي يراك يتعلق بك ويود أن يقتدي بك ويهتدي بهداك لكن إذا كنت تاركاً لرسول الله وقلبك من الداخل معلَّقٌ بالدنيا وهمُّك كلُّه في الحصول على شهوات وحظوظ وأهواء الدنيا فحتي لو تعلقت بالآخرة فمرادك من هذا أن يصير لك دنيا كأن تصير شيخاً لك مريدون وكرامات يذيعونها في الشرق والغرب وهذا حبُّ الظهور وهذا كله أصبح دنيا
هذا هو المنهج الذي مشي عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم في ذاتهم أدَّبوا ذواتهم أولاً بالصورة المحمدية إذا همَّ أحدهم أن يغضب تقول له نفسه: سيدنا رسول الله كان لا يغضب لنفسه قط لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله هذا هو المقياس الذي تقيس به غضبك عندما يعجز عند نزول مصيبة تقول له: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إنما الصبر عند الصدمة الأولي)[7] أتترك الصبر وتذهب للجزع؟ يظل سائراًً على هذا المنوال وعلي هذا المنهاج وكلما يريد أن يشرد هنا أو يمشي هاهنا ترده السنَّة وإتباع السنة من فينا قلبه متعلِّقٌ بحبيب الله ومصطفاه ومستحضر صورته ويريد أن يمشي على منهجه وخطاه؟ الذي هو كذلك يستبشر ويبشِّرُ نفسه بأنه من عباد الله الذي اختارهم الله لولايته وسيكون عاجلاً أو آجلاً من أهل معية حبيب الله ومصطفاه
أما الذي يريد أن يمشي على هواه ويأتي بمبررات وتبريرات لأعماله من سيرة رسول الله فهذا والعياذ بالله كان منهج المنافقين وهم كانوا غير صادقين ولذلك كانوا يحاولون الاعتذار ويحاولون الاجتهاد في الكلام لأنهم لا يستطيعون المشي على الجادة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك يأتون بالتبرير لكن المؤمنين الصادقين قال لهم الله {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} فنفسه لا تؤذن له أن يعتذر وقلبه لا يسامحه لو اعتذر لأنه عرف أنه أخطأ فهذا ميزان أهل القلوب وهذه السنارة التي تخطف القلوب ولا تتركها إلى أن تواجه الحبيب المحبوب بعد استحضار الجمالات المحمدية والأوصاف الكمالية وهذا أمر ليس فيه خلاف بين السابقين واللاحقين وكل الذي يحاول أن يبعدك عن هذه الصورة بأي صورة تعلم أنه خبٌّ ولئيم أو شيطان رجيم لأنه يبعدك عن الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم
[1] مسند الطيالسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس [2] الجوهرة في نسب الرسول والاستيعاب في معرفة الصحاب [3] عن ثَوْبَانَ رضيَ اللَّهُ عنهُ جامع المسانيد والمراسيل [4] الترمذي عن على بن أبى طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه [5] مسند الإمام أحمد [6] جامع المسانيد والمراسيل عن البراء بن عازب [7] متفق عليه