الدرس الثالث: بحث آخر في صفات عباد الرحمن
يتحدث سبحانه عن صفات أخرى فيقول:
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) سورة الفرقان
اللغة:
أثاماً: «الاثم» و«آثام» في الأصل بمعنى الأعمال التي تمنع من وصول الانسان الى المثوبة، ثم أطلقت على كل ذنب، لكنها هنا بمعنى جزاء الذنب.
متاباً: مرجعاً حسناً.
التّفسير
بحث آخر في صفات عباد الرحمن:
ميزة «عباد الرحمن» السادسة التي وردت في هذه الآيات هي التوحيد الخالص الذي بيعدهم عن كل أنواع الشرك والثنوية والتعددية في العبادة، فيقول تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ}.
فقد أنار التوحيد آفاق قلوبهم وحياتهم الفردية والإجتماعية، وانقشعت عن سماء أفكارهم وأرواحهم ظلمات الشرك.
الصفة السابعة طهارتهم من التلوث بدم الأبرياء {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}.
ويستفاد جيداً من الآية أعلاه أن جميع الأنفس الإنسانية محترمة في الأصل، ومحرم إراقة دمائها إلاّ إذا تحققت أسباب ترفع هذا الإِحترام الذاتي فتبيح إراقة الدم صفتهم الثّامنة هي أن عفافهم لا يتلوث أبداً: {وَلا يَزْنُونَ}.
إنّهم على مفترق طريقين: الكفر والإيمان، فينتخبون الإيمان، وعلى مفترق طريقين الأمان واللاأمان في الأرواح، فهم يتخيرون الأمان، وعلى مفترق طريقين: الطهر والتلوث: فهم يتخيرون النقاء والطهر. إنّهم يهيئون المحيط الخالي من كل انواع الشرك والتعدي والفساد والتلوث، بجدهم واجتهادهم.
وفي ختام هذه الآية يضيف تعالى من أجل التأكيد أكثر: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}.
قال بعضهم: إن «إثم» بمعنى الذنب و«آثام» بمعنى عقوبة الذنب (الرازي) فإذا رأينا أن بعض المفسّرين ذكروها بمعنى صحراء أو جبل أو بئر في جهنم فهو في الواقع من قبيل بيان المصداق.
ومن الملفت للنظر في الآية أعلاه، أنها بحثت أولا في مسألة الشرك، ثمّ قتل النفس، ثمّ الزنا، ويستفاد من بعض الرّوايات أن هذه الذنوب الثلاثة تكون من حيث الأهمية بحسب الترتيب الذي أوردته الآية.
ينقل ابن مسعود عن النّبي الأكرم (ص)، قال: سألت رسول الله (ص): أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك» قال: قلت: ثمّ أَيُّ؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال: قلت: ثمّ أيُّ؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديقها.(15)
وبالرغم من أن الكلام في هذا الحديث، ورد عن نوع خاص من القتل والزنا، لكن مع الإنتباه إلى إطلاق مفهوم الآية يتجلى أنّ هذا الحكم يشمل جميع أنواع القتل والزنا، وما في الرّواية مصداق أوضحٌ لهما.
تتكيء الآية التالية أيضاً على ما سبق، من أن لهذه الذنوب الثّلاثة أهمية قصوى، فيقول تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً}.
ويتجسد هنا سؤالان:
الأوّل: لماذا يتضاعف عذاب هذا النوع من الأشخاص؟ ولماذا لا يجازون على قدر ذنوبهم؟ وهل ينسجم هذا مع أصول العدالة!؟
الثّاني: إنّ الكلام هنا عن الخلود في العذاب، في حين أنّ الخلود هنا مرتبط بالكفار فقط. والذنب الأوّل من هذه الذنوب الثلاثة التي ذكرت في الآية يكون كفراً، فقط، وأمّا قتل النفس والزنا فليسا سبباً للخلود في العذاب.
بحث المفسّرون كثيراً في الإجابة على السؤال الأول، وأصح ما أوردوه هو أن المقصود من مضاعفة العذاب أن كل ذنب من هذه الذنوب الثلاثة المذكورة في هذه الآية سيكون له عقاب منفصل، فتكون العقوبات بمجموعها عذاباً مضاعفاً.
فضلا عن أنّ ذنباً ما يكون أحياناً مصدر الذنوب الأُخرى، مثل الكفر الذي يسبب ترك الواجبات وارتكاب المحرمات، وهذا نفسه موجب لمضاعفة العذاب الإلهي.
لهذا اتّخذ بعض المفسّرين هذه الآية دليلا على هذا الأصل المعروف أن: «الكفار مكلفون بالفروع كما أنّهم مكلفون بالأصول».
وأمّا في الإجابة على السؤال الثّاني: فيمكن القول أن بعض الذنوب عظيم إلى درجة يكون عندها سبباً في الخروج من هذه الدنيا بلا إيمان.
ومن الممكن أن يكون الأمر كذلك في مورد الزنا أيضاً، خاصّة إذا كان الزنا بمحصنة.
ومن المحتمل أيضاً أن «الخلود» في الآية أعلاه يقصد به من يرتكب هذه الذنوب الثلاثة معاً، الشرك وقتل النفس والزنا، والشاهد على هذا المعنى: الآية التالية حيث تقول: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً}.
واعتبر بعض المفسّرين ـ أيضاً ـ أن «الخلود» هنا بمعنى المدة الطويلة لا الخالدة، لكن التّفسير الأوّل والثّاني أصح.
ومن الملفت للنظر هنا ـ فضلا عن مسألة العقوبات العادية ـ عقوبة أُخرى ذكرت أيضاً هي التحقير والمهانة، أي البعد النفسي من العذاب، وقد تكون بذاتها تفسيراً لمسألة مضاعفة العذاب، ذلك لأنّهم يعذبون عذاباً جسدياً وعذاباً روحياً.
لكن القرآن المجيد كما مرِّ سابقاً، لم يغلق طريق العودة أمام المجرمين في أي وقت من الأوقات، بل يدعو المذنبين إلى التوبة ويرغبهم فيها، ففي، الآية التالية يقول تعالى هكذا: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}.
كما مرّ بنا في الآية الماضية، ففي الوقت الذي ذكرت ثلاثة ذنوب هي من أعظم الذنوب، تركت الآية باب التوبة مفتوحاً أمام هؤلاء الأشخاص، وهذا دليل على أن كل مذنب نادم يمكنه العودة إلى الله، بشرط أن تكون توبته حقيقية، وعلامتها ذلك العمل الصالح (المُعَوِّض) الذي ورد في الآية، وإلاّ فإن مجرّد الإستغفار باللسان أو الندم غير المستقر في القلب لا يكون دليلا على التوبة أبداً.
المسألة المهمّة فيما يتعلق بالآية أعلاه هي: كيف يبدل الله «سيئات» أولئك «حسنات»؟
تبديل السيئات حسنات:
هنا عدّة تفاسير، يمكن القبول بها جميعاً:
حينما يتوب الإنسان ويؤمن بالله، تتحقّق تحولات عميقة في جميع وجوده، وبسبب هذا التحول والإنقلاب الداخلي تتبدل سيئات أعماله في المستقبل حسنات، فإذا كان قاتلا للنفس المحترمة في الماضى، فإنّه يتبنى مكانها في المستقبل الدفاع عن المظلومين ومواجهة الظالمين. وإذا كان زانياً، فإنّه يكون بعدها عفيفاً وطاهراً، وهذا التوفيق الإلهي يناله العبد في ظل الإيمان والتوبة.
أن الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وفضله وإنعامه يمحو سيئات أعمال العبد بعد التوبة، ويضع مكانها حسنات، نقرأ في رواية عن أبي ذر: قال: قال رسول الله (ص): «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا صغار ذنوبه، وتخبأ كبارها، فيقال: عملت يوم كذا وكذا، وهو يقرّ ليس بمنكر، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء، فإذا أراد الله خيراً قال: اعطوه مكان كل سيئة حسنة، فيقول: يا ربّ لي ذنوب ما رأيتها ها هنا؟» قال: ورأيتُ رسول الله (ص) ضحك حتى بدت نواجذه، ثمّ تلا: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}.
التّفسير الثّالت هو أن المقصود من السيئات ليس نفس الأعمال التي يقوم بها الإنسان، بل آثارها السيئة التي تنطبع بها روح ونفس الإنسان، فحينما يتوب ويؤمن تجتث تلك الآثار السيئة من روحه ونفسه، وتبدل بآثار الخير، وهذا هو معنى تبديل السيئات حسنات.
ولا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة قطعاً، ومن الممكن أن تجتمع كل هذه التفاسير الثلاثة في مفهوم الآية.
الآية التالية تشرح كيفية التوبة الصحيحة، فيقول تعالى: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً}.
يعني أن التوبة وترك الذنب ينبغي ألا تكون بسبب قبح الذنب، بل ينبغي ـ إضافة إلى ذلك ـ أن يكون الدافع إليها خلوص النية، والعودة إلى الله تبارك وتعالى.
لهذا فإنّ ترك شرب الخمر أو الكذب بسبب إضرارهما مثلا، وإن كان حسناً، لكنّ القيمة الأسس لهذا الفعل لا تتحقق إلاّ إذا استمدَّ من الدافع الربّاني.
بعض المفسّرين ذكروا تفسيراً آخر لهذه الآية، وهو أن هذه الجملة جواب على التعجب الذي قد تسببه الآية السابقة أحياناً في بعض الأذهان، وهو: كيف يمكن أن يبدل الله السيئات حسنات؟!، فتجيب هذه الآية: حينما يؤوب الإنسان إلى ربه العظيم، فلا عجب في هذا الأمر.
تفسير ثالث ذكر لهذه الآية، وهو أن كلَّ من تاب من ذنبه فإنّه يعود إلى الله، ومثوبته بلا حساب.
وبالرغم من عدم وجود منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة، لكن التّفسير الأوّل أقرب، خاصّة وأنّه يتفق مع الرّواية المنقولة في تفسير علي بن إبراهيم القمي في ذيل هذه الآية.